الاثنين، 3 نوفمبر 2008

محطات في تاريخ التسامح بين الأديان والشعوب

محطات في تاريخ التسامح بين الأديان والشعوب
ظلت الأندلس طيلة الحكم الاسلامي الذي استغرق ردحا طويلا من الزمن ، تشكل أنموذجا للتسامح والتعايش بين الشعوب والإثنيات من عرب وبربر ومستعربين ويهود ومولدين وصقالبة ، وغيرهم من الطوائف التي وفدت من مختلف الأصقاع ، لتنصهر ضمن وحدة اجتماعية تميزت بخصائص حضارية مشتركة وانسجام اجتماعي ملحوظ ، رغم ما كان يظهر أحيانا من نعرات التعصب التي لم تكن سوى استثناءات ونتوءات في تاريخ الأندلس . ولتأكيد هذه الفرضية ، تسعى هذه الورقة لإعطاء صور متعددة عن التسامح الذي ساد بين مختلف الإثنيات العرقية والديانات المتنوعة بالأندلس ، مدعمة بالحجج والقرائن ، وذلك عبر ثلاث محطات من التاريخ الأندلسي وهي : 1 - تعايش اجتماعي مشترك . 2 - حرية المعتقد . 3 - ثقافة متسامحة تقوم على الاختلاف والتنوع . وقبل تناول هذه المحطات الثلاث ، تجدر الإشارة إلى أن دراسة التسامح بين الشعوب والأديان ، تستدعي التحفظ مما جاء في بعض المرجعيات الفقهية التي تلون خطابها بنبرة من التعصب والتشدد تجاه بعض الطوائف الدينية ، وتستلزم مقابل ذلك الاحتكام الى الواقع التاريخي الذي يثبت أن المجتمع الأندلسي تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعها الفقهاء ، وتعامل المسلمون مع كل الطوائف الأخرى على أساس مبدإ الانفتاح على الآخر ، بعيدا عن كل أشكال الاستعلاء والتميز ، وهو ما سنتطرق إليه في موضعه . 1- المحطة الأولى : تعايش اجتماعي مشترك . منذ اللحظة الأولى التي فتح فيها المسلمون الأندلس ، بدأت عقارب التسامح تتسارع ، وهو ما تعكسه إحدى الروايات حول رؤية موسى بن نصير النبي (ص) وهو ينصحه ((بالرفق بالمشركين )) ، ورغم ما يحمله ظاهر نص هذه الرواية من شحنة أسطورية ، فإن الدلالة الرمزية التي يختزنها ، تكمن في عزم القيادة الاسلامية على فتح حوار حضاري مع أهل البلد الذي فتحوه . وترجم هذا الاتجاه بعقد معاهدات سلمية تحتفظ لهؤلاء بحرية المعتقد وحماية الممتلكات ؛ ورغم ضياع معظم الوثائق التي تؤكد هذا التعامل الحضاري ، فثمة وثيقة هامة لم يطوها الزمن ، وردت في شكل معاهدة صلح كتبها عبد العزيز بن موسى بن نصير إلى تدمير حاكم إقليم مرسية ، وفيها يظهر بجلاء حفاظ سكان هذا الإقليم على استقلالهم السياسي ، وحرية معتقداتهم ، وحماية أرواحهم وممتلكاتهم . ومع أن المسلمين أصبحوا أسيادا على الأندلس ، إلا أن معاملتهم للإسبان كانت تتم على قدم المساواة . وفي هذا السياق أورد المرحوم حسين مؤنس نموذجا يعكس ذلك ، ويتجلى في أن ميمون العابد أحد أقطاب الصلحاء المسلمين ممن دخلوا الأندلس ، ذهب إلى " أرطباس " زعيم أهل الذمة بالأندلس ، وطلب منه ضيعة ليزرعها على أساس اقتسام الثمر بينه وبين صاحبها . وكان بالإمكان - وهو في وضعية الغالب - أن يستبد بممتلكات هذا الأخير ، لكنه فضل التعامل بهذا الأسلوب الذي يعكس الرغبة في الحوار مع الآخر دون عقدة تضخم الأنا أو نزعة الاستعلاء . ومن مظاهر هذا التعايش الاجتماعي القائم على قدم المساواة ، امتزاج العرب بالمستعربين في كل الأماكن . ولعلّ تفحص خريطة إقامة المستعربين تدل على أنهم كانوا يحتلون مكانة اجتماعية متميزة ، حيث أقاموا في الحواضر الأندلسية الرئيسية مثل غرناطة وإشبيلية وبلنسية ومالقة وغيرها من المدن الهامة . وقد دأبوا على سكن أحياء خاصة بهم مراعاة لتقاليدهم وخصوصياتهم ، غير أن ذلك لم يحل دون مخالطتهم مختلف شرائح المسلمين . ورغم تحذيرات الفقهاء من التعامل مع النصارى ، فإنهم لم يجدوا الآذان الصاغية ، خاصة أن بعضا من الفقهاء أنفسهم كانوا على صلة وثيقة بهم ، مصداق ذلك ما رواه الطرطوشي من أن فقيها يدعى ابن الحصار كان له (( جار نصراني يقضي حوائجه وينفعه )) . أما في ميدان حساس كالتجارة فالتفاعل بين الطرفين كان على أشده . ولا غرو فقد تعامل معهم الأندلسيون بيعا وشراء . وتعد الأمثال الشعبية أرقى درجات المصداقية في التعبير عمّا كان يسود من معاملات تجارية بين المسلمين والنصارى واليهود داخل المجتمع الأندلسي . ومن مظاهر التسامح الذي نهجته الدول الاسلامية التي حكمت الأندلس تجاه المستعربين ، أنها تركت لهم نظامهم الاجتماعي والقضائي كما كان في العصر القوطي دون تدخل أو إكراه ، بل حاولت دائما أن تجد الحلول عبر الاجتهادات التي كانت تقدم للفقهاء . ومن صور التسامح الاجتماعي الأخرى احترام الدول الاسلامية تقاليد وأعراف اليهود والمستعربين بالأندلس ، حيث خصصت لهم مقابر خاصة تمشيا مع عوائدهم وتقاليدهم في دفن موتاهم . ولا تعوزنا الأدلة في إبراز مدى احترام المسلمين لحقوقهم الاجتماعية ، والضرب على أيدي كل من حاول المس بها ، فقد ورد عند ابن عذاري أن مجموعة من مستعربي غرناطة ذهبت إلى بلاط الأمير المرابطي علي بن يوسف لتقديم شكوى حول العسف والجور الذي تعرضت له من قبل عامل المدينة المسمى عمر بن يناله . فلما ثبت للأمير حجتهم أمر بسجنه (( وأنصفهم من ظلاماتهم )) . كما لم يجد القاضي ابن رشد أي حرج في تحويل حكم كان لصالح مسلم إلى نصراني ثبت أن حقه قد هضم . ويستشف من روايات أخرى أن النصارى لم يمنعوا من تناول الخمور . كما سمح لهم باستغلال المرافق الاجتماعية الضرورية ، إذ تنص إحدى فتاوى ابن رشد على عدم منعهم من استقاء المياه مع المسلمين من الصهاريج ، بل سمح لهم بالخروج مع المسلمين في صلاة الاستسقاء ، وكل هذه القرائن تعكس مدى التعايش المشترك بين شعوب الديانات الثلاث بالأندلس . أما الوجه الثاني لهذا التعايش الاجتماعي المبكر فيتمثل في ظاهرة الزواج بين العرب الفاتحين والنساء الإسبانيات ، مما أدى الى تكوين عائلات وبيوتات بفضل هذا الامتزاج ، وهي البيوتات المولدية . لقد أصبحت ظاهرة التزاوج والمصاهرة بين الجنسين العربي والاسباني ظاهرة متميزة جعلت من عملية فتح الأندلس مدخلا لتعايش اجتماعي وحضاري مشترك أكثر منه غزوا عسكريا . وتحفل المصادر التاريخية بذكر أخبار متفرقة عن نماذج من الزواج العربي - الاسباني ، من ذلك ما رواه صاحب كتاب " افتتاح الأندلس " عن زواج عيسى بن مزاحم بسارة القوطية بنت ألمند بن غيطشة ، ثم زواجها الثاني بعد وفاة زوجها الأول بعمير بن سعيد اللخمي . وبالمثل فإن عبد العزيز بن موسى بن نصير تزوج "بأيلونا" المعروفة بأم عاصم . وقد حظيت هذه المرأة الاسبانية " الحديدية " عنده بمكانة متميزة إلى درجة أنها حملته على التنصر ، ناهيك عن زواج زياد بن نابغة التميمي بامرأة اسبانية كان لها دور في الأحداث الأولى التي أعقبت فتح الأندلس . ومع مرور الزمن سيزداد إيقاع هذا التزاوج العربي - الاسباني سرعة وشمولا حتى صار الموثقون والعدول يخصصون فصولا من كتبهم لكتابة صيغ نموذجية لعقود زواج المسلمين بالكتابيات . وقد أفرز هذا الزواج المختلط جنسا يحمل الدم العربي-الاسباني وهو المعروف بجنس المولدين . وكان من نتائج تجدر أواصر الحضارة المشتركة على المستوى الاجتماعي أن تأسست عادات وتقاليد مشتركة قوية لدرجة جعلت بعض الباحثين يتحدثون عن " أسبنة " للعناصر الإثنية العربية . وانعكس هذا الذوبان في النسيج الاجتماعي في مشاركة مسلمي الأندلس إخوانهم المسيحيين في معظم احتفالاتهم الدينية ، وهي مشاركة روحية أفرزتها قرون عديدة من التعايش . فمن خلال تتبع النصوص النادرة حول هذا الموضوع ، نجد إشارات هامة الى مساهمة المسلمين في الاحتفالات بمناسبة عيد المسيح و عيد سان خوان . و نذكر من الأعياد التي شارك فيها مسلمو الأندلس إخوانهم المسيحيين أيضا عيد ينير الذي كان يحتفل به في النصف الأول من هذا الشهر ، وهو احتفال أفاضت المصادر الأندلسية في وصف مظاهره . فحسبما يستشف من أزجال ابن قزمان ، فإن المسلمين انطلاقا من مبدإ التعايش المشترك ، لم يجدوا غضاضة في التحلي بأجمل الأزياء في هذا العيد المسيحي ، واستضافة الأصدقاء والأحباب لقضاء أجواء الليل في الاحتفال والسمر ، وتغص الموائد بأصناف الحلويات وغيرها من شتى أصناف المأكولات ، بل إن بائعي الفواكه كانوا يطرقون أبواب منازل المسلمين في الأندلس لبيع ما تستلزمه هذه المناسبة من احتفال ، وتعبيرا عن مشاركتهم فيها . كما ساهم مسلمو الأندلس في الاحتفال بعيد العنصرة الذي كان يتم الاحتفال به بعد مرور خمسين يوما على عيد الفصح ، و هي مناسبة تمثل لدى المسيحيين ذكرى نزول الروح القدس على حواريي المسيح الاثنى عشر . ونظرا لتعلق الأندلسيين بهذا العيد ، فقد انعكس في أمثالهم التي صوّرت ما يجري من عادات الأفراح وأشكال الاحتفالات في مثل هذه المناسبة . ومن الأعياد المسيحية المحتفل بها في الوسط الاسلامي الأندلسي أيضا ليلة العجوز، وهي ليلة آخر السنة الميلادية . وتتصل بها مناسبة أخرى عرفت بخمس أبريل ، وهي مناسبة دينية تعرف عند المسيحيين بالجمعة العظيمة التي ترمز إلى تاريخ صلب المسيح ، وكانت الصلاة تقام في الكنائس مساء الخميس . ورغم المحاذير الدينية التي كان تطلقها أفواه بعض الفقهاء الأندلسيين الذين اعتبروا مشاركة مسلمي الأندلس في الأعياد المسيحية بدعة ، فإن المجتمع الأندلسي غالبا ما تجاوز هذه الممنوعات الفقهية ، مما يعكس روح التسامح والتشارك الحضاري . وفي هذا السياق نجد نساء إشبيلية المسلمات يضربن صفحا عن " أوامر " المحتسب ابن عبدون بعدم مصاحبة النساء النصرانيات إلى الكنيسة . كما أن دعوته لإحداث قطيعة بين المسلمين واليهود لم تكن سوى صيحة في واد ، لأن اجتماع الطوائف الأندلسية أصبح أمرا مألوفا في الأسواق والمرافق الاجتماعية التي نهى عنها محتسب اشبيلية ، بل إن بعض الشبّان الأندلسيين ضربوا بتوجيهات الفقهاء عرض الحائط فولعوا بالفتيات النصرانيات، وعشقوهن إلى درجة أنهم أصبحوا يترددون على الكنائس لرؤية معشوقاتهم المسيحيات . من ناحية أخرى ، شكل الزي الأندلسي وجها آخر للتعايش المشترك بين طوائف وشعوب المجتمع الأندلسي ، ولا غرو فقد ظهرت ملامح التأثير الافرنجي في الزي الأندلسي بوضوح ، خاصة في الملابس الحريرية المطرزة والقلانس . نستشف ذلك مما ذكره ابن الخطيب عن ابن مردنيش أمير شرق الأندلس إبان العصر المرابطي الأخير حيث (( مال إلى اتخاذ زي الروم )) . وفي نفس المعنى أكد المقري أن أمراء وأعيان الأندلس غالبا ما تزينوا باللباس الافرنجي . وأثناء حديثه عن أنواع الملابس التي انتشرت خلال العصر المرابطي ، يشير إلى اشتراك المسلمين والمستعربين في الأندلس في صناعة زي من جلد القلنية . ومن الدلالات على الأزياء المشتركة بين المسلمين والمستعربين أن مصطلح "فشطان " الذي شاع استعماله في اللغة العامية الأندلسية كان يعني في لغة ذلك العصر ((ثياب الروم )) ، مما يدل على التداخل بين حضارتين كانتا تعيشان على ارض واحدة . وعلى غرار المسيحيين ، استعرب اليهود منذ هذه الفترة الباكرة من تاريخ الأندلس ، فأخذوا لغة العرب وملابسهم ، واندمجوا اندماجا عميقا في الحضارة الاسلامية . ورغم استئساد الفقهاء في فرض بعض الأزياء على اليهود ، ومنعهم من ارتداء بعضها ، فإن الواقع التاريخي يثبت أن هؤلاء قلدوا أزياء الأعيان المسلمين ، متجاوزين بذلك كل المحاذير الفقهية ؛ ففي نازلة وردت على أحد أصحاب القاضي أبي بكر بن العربي أن رجلا يهوديا كان يرتدي عمامة وخاتما ويركب السروج على فاره الدواب على عادة المسلمين في الأندلس ، ويجلس في حانوته دون غيار ولا زنار يتميز به عن عموم المسلمين، مما يؤكد صحة التعايش المشترك القائم على مبدإ التسامح . ورغم أن الوسط الشعبي الأندلسي كان لأسباب تنافسية أحيانا يكن البغض لبعض اليهود ، فإن هؤلاء كانوا يختلطون بالمسلمين ويتعاملون معهم بيعا وشراء ، وأصبح اليهود - باعتراف المؤرخ اليهودي Sloush - ينعمون في عصر الطوائف والمرابطين ، خاصة في عهد علي بن يوسف بامتيازات كبيرة لم يحصلوا عليها منذ عهود طويلة
يتضح من حصاد النصوص السابقة أن الأندلس عرفت نسقا اجتماعيا تعايشت فيه أنماط حضارية جمعها مبدأ التسامح الذي سار على نهجه مسلمو الأندلس ، فماذا عن الجانب العقدي ؟ 2- المحطة الثانية : حرية المعتقد منذ فتح المسلمين للأندلس ، تعايشت الديانات السماوية الثلاث الاسلام والمسيحية واليهودية جنبا إلى جنب ، رغم ما كان يطرأ على صفو العلاقات بين معتنقي هذه الديانات من غيوم عابرة . فالديانة اليهودية خرجت من طور الاضطهاد الذي لزمها خلال العصر القوطي ، إلى طور التسامح . وقد زاد من وتيرة هذا التسامح المساعدة التي قدمها اليهود أثناء فتحهم الأندلس ، حين دلّوا المسلمين على نقاط ضعف جهاز الجيش القوطي والعورات التي كانت تعتري التحصينات ، مما حدا بالفاتحين إلى التعامل معهم بروح ملؤها التسامح ، بل وضعوا ثقتهم فيهم فأوكلوا لهم مسؤولية حراسة ما فتحوه من قلاع وحصون ، وتركوهم يعيشون أحرارا في أهم الحواضر الأندلسية كغرناطة واليسانة ، ولم يتعرضوا لبيعهم بالهدم ، بل وفروا لهم كل الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية . حقا أن ثمة شواهد تاريخية حول بعض المضايقات الدينية التي تعرض لها اليهود من طرف الفقهاء والقضاة ، من ذلك ما طالب به ابن سهل في إحدى فتاويه بهدم شنائع يهودية محدثة . لكن مثل هذا السلوك كان له ما يبرره من الناحية الشرعية إذ لم يجوّز الفقهاء بناء كنائس أو شنائع داخل المدن الاسلامية ، وخاصة في الأراضي العنوية ، لذلك ليس الصواب تعميم هذا الحدث للقول باضطهاد المسلمين ليهود الأندلس . على عكس هذه التخريجات ذات الرؤية القاصرة ، يستشف من رسائل الجنيزة ما تمتع به اليهود من حرية دينية تمثلت في السماح لهم بالحج إلى بيت المقدس ، وتأليف الكتب الدينية . ولا غرو فقد صنف يهوذا هاليفي Judah Halevi المعروف في المصادر العربية بأبي الحسن كتابا حول اليهودية وعلاقتها بالأديان الأخرى ، وأصبح اليهود في عصر الطوائف والمرابطين يتمتعون بامتيازات لم يحصلوا عليها منذ عهود طويلة . وبلغت حرية النشاط الديني ذروتها مع إسحاق الفاسي اليهودي الذي خلف موسى بن عزرا في منصب حبر غرناطة في بداية القرن السادس الهجري ، ولعب دورا أساسيا في التكوين الديني ليهود الأندلس . كما ظهرت مجموعة من الأحبار في مدن أندلسية أخرى كغرناطة وقرطبة وأليسانة. وتعددت معابد اليهود في الأندلس إلى درجة أنها أثارت انتباه العامة ، فذكروها في أمثالهم . ومن مظاهر حرية المعتقد التي حظي بها اليهود في عصر المرابطين انتشار المراكز الدينية اليهودية في المغرب كما تؤكد ذلك إحدى القصائد التي نظمها أبراهام بن عزرا , خاصة في عهد الأمير المرابطي علي بن يوسف ، لذلك لا عجب أن يعتبره البعض (( أحد حماة اليهود )) . ولا شك أن روح التسامح التي ميزت المرابطين من الناحية الدينية تخالف المعاملة القاسية التي لقيها مسلمو بلنسية على يد العناصر اليهودية إثر استيلاء النصارى عليها . وكل هذه القرائن تنفي ادعاء من فسر هجرة المفكرين اليهود نحو الممالك المسيحية بأنها نتيجة التعصب الديني الذي أبداه المرابطون . فلو كانوا يعيشون في مثل هذا الاضطهاد الديني المزعوم ، لما فتحت أمامهم مجالات الكتابة و الأبحاث في ديانتهم . ومن الدلائل القاطعة على ما تمتع به اليهود من حرية العقيدة والفكر ، ظهور العديد من المفكرين والعلماء الذين طوروا الثقافة اليهودية ، ومارسوا أنشطتهم دون معارضة كابن ميمون وغيره. أما بالنسبة لحرية المعتقد بالنسبة لمسيحيي الأندلس ، فإن السلطة الاسلامية كفلت لهم حريتهم الدينية منذ بداية الفتح الاسلامي للأندلس ، وكذلك استمر الأمر خلال عصر الولاة والإمارة والخلافة . بل إن التسامح الديني تجاههم بلغ ذروته في عصر ملوك الطوائف . وبخصوص العصر المرابطي ذهب بعض الباحثين الأجانب إلى اتهام المرابطين بالتعصب والتشدد ضد المسيحيين انطلاقا من إقدام هؤلاء على هدم بعض الكنائس ، غير أن هذا القول مردود ولا تؤكده الوقائع ، وحسبنا أن هناك شواهد تثبت انتشار الكنائس في طول بلاد الأندلس وعرضها ، وما حدث من هدم بعض الكنائس مثل كنيسة البيرة تفسر بظرفيتها العصيبة ، حيث جاء هذا الهدم متزامنا مع نفس السنة التي استولى فيها الصليبيون على بيت المقدس . ولا أدل عن هذا التسامح من أن ثوب القداس الذي كان يرتديه القديس خوان ذي أروتيغا كان يحمل اسم الأمير علي بن يوسف ، وهو الثوب الذي ما يزال محفوظا بإحدى كنائس برغس . وبالمثل فإن أحد الأساقفة الذي تم إبعاده من الأندلس نتيجة تحالفه مع ألفونسو السابع ، ظل في مدينة فاس مدة 11 سنة ، كتب خلالها نسخا من الإنجيل بكل حرية . والراجح أن التسامح الديني الذي أبداه مسلمو الأندلس ، والسلوكات الحضارية التي تعاملوا بها مع الأهالي المسيحيين ، ما جعل هؤلاء يعتنقون الاسلام . فالمصادر تمدنا بين الفينة والأخرى بأخبار بعض المسيحيين الذين أسلموا ، ومن بينهم جد ابراهيم بن سفرج المدعو بابن همشك . كما وردت في نوازل ابن سهل مسألة عن (( غلام من النصارى يريد الاسلام )) . ويمثل اعتناق مسيحيي اشبيلية الإسلام بكيفية جماعية في عصر المرابطين أهم نموذج لاعتناق المسيحيين الاسلام ، وهو ما يبرز من خلال الرسالة التي أوردها الونشريسي على لسان علي بن يوسف يستفتي فيها رأي الفقيه ابن ورد بقوله : (( ...وكذلك ورد علينا كتاب ابننا أبي بكر أعزه الله بتقواه مضمنا أن قوما من النصارى المعاهدين أسلموا في اشبيلية حرسها الله )) . أما في ما يتعلق باليهود ، فيمكن أن نذكر من الشخصيات اليهودية التي اعتنقت الاسلام أبو الفضل بن حسداي فضلا عن عدد هام ممن أسلموا ، حتى أن ظاهرة دخول اليهود للإسلام أصبحت شائعة ، وأصبح العامة الأندلسيون يطلقون مصطلح " أسلمي " على كل من أسلم من اليهود . المحطة الثالثة : ثقافة الاختلاف والتنوع رغم هيمنة العرب على الأندلس ، فقد أشاعوا ثقافة متسامحة أساسها الاختلاف والتنوع ، حتى أن الفكر اليهودي لم يعرف نهضة مثلما عرفها في الأندلس ، ولا غرو فقد برزت أسماء العديد من المفكرين اليهود في شتى مناحي المعرفة ، خاصة خلال العصرين الطائفي والمرابطي . ومن هذا القبيل إسحاق الفاسي اليهودي ، وأبي الحسن يهودا وغيرهما . ولايخامرنا شك في أن إمكانياتهم المادية مكنتهم من بلوغ درجة عالية من المعرفة المتمثلة في العلوم والآداب العربية التي ترجموها ، فطوروا بها الفكر اليهودي وساهموا في إثرائه . كما بذلوا جهودا محمودة لإثراء الدراسات الدينية اليهودية . و يأتي في طليعة المفكرين الدينيين إسحاق الفاسي (ت497هـ \1163م) الذي يعدّ حجة في الدراسات التلمودية . وقد استغرق شرحه للتلمود خمسين سنة كاملة . وبعد هجرته من قلعة بني حماد ، استقر في فاس ، ثم انتقل إلى مدينة أليسانة ، حيث أسس مدرسة أصبحت من أهم مراكز الدراسات التلمودية ، وخلف عدة تلاميذ . ويأتي بعده في الأهمية أبراهام بن عزرا (466-565هـ \ 1073-1163م) الذي شرح القوانين التلمودية في 24 مجلدا، إلى جانب نبوغه في مجال الشعر . وفي مجال الفلسفة بزغ العديد من اليهود ، ومنهم يهودا بن صمويل هاليفي المعروف في المصادر العربية بأبي الحسن . وقد ألف كتابا هاما عبّر فيه عن آرائه الفلسفية دون معارضة أي سلطة اسلامية ، فضلا عن أبي عمر يوسف بن الصديق الذي صنف مؤلفا في الفلسفة هدف من ورائه إلى تعريف معاصريه بالحقائق الكبرى للأخلاق . ويبدو أن الفلاسفة اليهود تأثروا بالفلسفة العربية ، وهذا في حد ذاته دليل على التفاعل بين مسلمي الأندلس واليهود . ويعد أبو جعفر يوسف بن أحمد بن حسداي أول المتأثرين بابن باجة الذي كان يراسله بكيفية مستمرة ، فضلا عن أسماء فلاسفة آخرين لا يسمح المجال بذكرهم أولا بأول . الشيء نفسه يقال عن اهتمام بعض اليهود بالعلوم العربية والنحو ، يذكر المقري من بينهم ابراهيم بن سهل الإسرائيلي ، بالإضافة إلى علماء آخرين عرفوا بعلو كعبهم في العلوم النحوية . وبالمثل ، شهد القرن السادس الهجري بروز عدة شعراء يهود نذكر منهم موسى بن عزرا الذي لم تسعفه الظروف للزواج بمحبوبته ، فظل يكتب الشعر مدفوعا بالألم الداخلي . وجمع قصائده في ديوان ذكر فيه الخمر والهوى ، ولذات العيش على طريقة شعراء العرب . أما يهوذا هاليفي فقد نظم أشعاره في قوالب و موضوعات عربية ، وألف رسالته المسماة الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل . ناهيك عن شعراء آخرين مرموقين قلدوا فن المقامات مثل سلمان بن زقبال ، وجود بن خياط وجود بن عباس ، كما برع بعضهم في فن الموشحات مثل قسمونة اليهودية . بيد أن جهود اليهود في المجال الثقافي تجلى أكثر في حركة الترجمة من العربية إلى العبرية واللاتينية حتى أن القرن السادس اعتبر انطلاقة حقيقية لحركة الترجمة ، وهذا ما يفسر حرص أمراء الإمارات النصرانية في شمال الأندلس على استدعاء بعض المترجمين اليهود للإقامة بين ظهرانيهم . ونسوق في هذا الصدد مثال موسى السيفاردي الذي كان مترجما الوقت و طبيبا لألفونسو المحارب ، ثم أبراهام بن عزرا (1089-1167م) ، فضلا عن مترجمين يهوديين آخرين سطع نجمهما في هذا الميدان . ولم تكن الترجمات المنجزة في الثغور الأندلسية تحمل أسماء المؤلفين الأصليين ، خلا بعض الترجمات الطبية التي استعملها قسطنطين الإفريقي وتلامذته . لذلك كان ابن عبدون على صواب حينما دعا إلى عدم بيع الكتب لليهود للحيلولة دون نسبتها إليهم . لكنه أخطأ الحساب حين اعتقد أن دعوته ستجد صدى ايجابيا ، فقد بيعت لهم الكتب ، مما أدى إلى ظهور مجموعة من المترجمين اليهود الذين نقلوا العلوم من العربية إلى العبرية . ومنذ القرن الخامس الهجري وضع يهودا شويح الفاسي قاموسا عبريا ومباحث قيمة عن الإنشاء والترقيم في اللغة العبرية . أما بخصوص انتشار ثقافة المستعربين ، فثمة من القرائن ما يكشف عن هذا الجانب ، خاصة في المجال اللغوي ، ذلك أن ازدواجية اللغتين العربية والافرنجية وتفاعلهما واندماجهما في التعبير العامي يؤكد ما نذهب إليه . لقد انتشرت اللغة العربية في أوساط الإسبان ، وظلت وسيلة للتعبير الكتابي حتى انتهاء الحكم الاسلامي في الأندلس كما يؤكد ذلك المستشرق الاسباني بالنثيا . ومما ينهض حجة على ذلك أن مقائيل بن عبد العزيز أحد الأساقفة الذي عاش في فاس خلال النصف الأول من القرن السادس الهجري 12م بعد قدومه من الأندلس ، كتب بخط يده نسخة من الإنجيل بالعربية ظلت محفوظة بخزانة الأسكوريال إلى حدود القرن 16م ، قبل أن تصبح بعد ذلك عرضة للضياع . وفي نفس المنحى الذي يؤكد انتشار اللغة العربية في أوساط الإسبان ، يذكر ابن عبد الملك المراكشي في ترجمة الفقيه أحمد بن عبد الصمد بن ابي عبدة أنه (( كان له مملوك من أبناء الروم قد علّمه الكتابة ، فكان يكتب عنه كل ما يؤلف ويصدر عنه من نظم أو نثر )) . وفي الاتجاه المقابل ، لا نعدم من النصوص ما يؤكد معرفة الأندلسيين للغة الإفرنجية، فعند حديثه عن الخدع التي كان يقوم بها تجار الجواري ، ذكر السقطي أن رجلا ((اشترى جارية أوهم أنها إفرنجية لكي تشترى بمال كبير ، وأوهمت هي كذلك المشتري بأنها افرنجية باللغة الإفرنجية )) . كما أن بعض الأندلسيين حافظوا على أسمائهم النصرانية ، ومنهم الحسن بن فيّره (( وفيّره اسم جده وهو اسم عجمي بلغة أعاجم الأندلس ومعناه الحديد )) . وينهض الزجل الذي بلغ ذروته في الأندلس دليلا على هذا التأثير الاجتماعي واللغوي بين الجانبين . ولا غرو فقد جاء حافلا بصور الحياة اليومية لمسلمي الأندلس إلى جانب عادات النصارى وتقاليدهم بلغة امتزجت فيها العامية الأندلسية باللاتينية . كما أن أزجال ابن قزمان تقوم دليلا على التأثيرات اللغوية والاجتماعية في مجال الأزياء والطعام والاحتفالات . من جهة أخرى فإن العامية الأندلسية المعروفة باسم العجمية أو الرومانسية أو اللطينية شاعت في الأندلس ، وهي لغة تختلط فيها الألفاظ العربية واللاتينية . والراجح أنها كانت شائعة لدرجة كبيرة حتى أن ابن حزم يبدي استغرابه من كون إحدى العائلات الأندلسية المشهورة وهي " دار بلي " لا يحسن أهلها التحدث باللاتينية . ويحاول المستشرق الاسباني "بالنثيا " اعتمادا على الأبحاث التي قام بها "ريبيرا " أن يفسر أسباب ذيوع اللغة الرومانسية في الأندلس بين الأوساط الشعبية إلى قلة عدد العرب الأقحاح الذين دخلوا الأندلس . غير أنه يبدو أن انتشار هذه اللغة إنما جاء نتيجة التسامح الذي سار على هديه الفاتحون ، بحيث لم يفرضوا اللغة العربية كما تفعل بعض الشعوب الغالبة ، بل تركوا الحرية لكافة الطوائف والإثنيات لتتعامل بلغاتها المتداولة ، فكان من نتيجة هذا التسامح ظهور هذا الخليط من اللغات التي أنتجت اللغة الرومانسية . لكن " بالنثيا " يعود في موضع آخر ليعطي تبريرا معقولا يتماشى مع ما نذهب إليه من كون فكرة التسامح كانت وراء ظهور هذه اللغة ، فقد ذكر أن استعمال المصطلحات اللطينية في الزجل على سبيل المثال راجع لكون هذا الأخير يحتاج إلى بعض العبارات الجارية على ألسنة الناس في قرطبة، و عامة الناس من السوقة ، فضلا عن حاجته إلى بعض العبارات الاصطلاحية التي تنتشر بصفة خاصة بين أهل كل حرقة . وعلى كل حال ، فإن هذه اللغة لم تقتصر على كونها وسيلة للتداول في المنازل والشوارع ، بل غزت أجناسا أدبية أخرى في اللغة العربية الفصحى مثل الأزجال والموشحات . ولعلّ هذا الامتزاج اللغوي يعبّر عن تفاعل الحضارتين العربية -الاسلامية و الاسبانية -اللاتينية ، مما يجعلها - بحق - لغة الحوار الحضاري الأندلسي آنذاك . من حصيلة كل النصوص الموظفة في هذا البحث يتضح أن الأندلس كانت عطاء صادقا لقرون من التعايش والتسامح ، وأن ثلاث محطات من محطات عديدة في تاريخ الأندلس عكست صورا من مظاهر هذا التسامح الذي شهدته الأندلس ، وهي التعايش الاجتماعي المشترك ، وحرية المعتقد ، وسيادة ثقافة الاختلاف والتنوع ، مما جعل الأندلس أنموذجا لحوار الحضارات وتعايشها .

ليست هناك تعليقات: