الاثنين، 3 نوفمبر 2008

وثيقة المدينة المنورة - وثيقة السلام في مجتمع متعدد الثقافات والأديان

«وثيقة المدينة المنورة - وثيقة السلام في مجتمع متعدد الثقافات والأديان
ا كتاب من محمد النبي [رسول الله]، بين المؤمنين والمسلمين من قريش و[أهل] يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، 2.أنهم أمّة واحدة مِن دون الناس. 3.المهاجرون من قريش على رَبعتهم يتعاقلون بينهم وهم يَفدُون عانِيَهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 4.وبنو عَوف على رَبعتهم يتعاقلون معاقلَهم الأولى، وكل طائفة تَفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 5.وبنو الحارث [بن الخزرَج] على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 6.وبنو ساعِدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تَفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 7.وبنو جُشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 8.وبنو النّجّار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 9.وبنو عَمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 10.وبنو النَّبِيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 11.وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 12.وأنّ المؤمنين لا يتركون مُفرَحا (أي مثقلا بالدَّين وكثرة العيال) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. 12/ب.وأنْ لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. 13.وأن المؤمنين المتقين [أيديهم] على [كل] مَن بغى منهم، أو ابتغى دَسيعةَ (كبيرة) ظلمٍ، أو إثمًا، أو عدوانًا، أو فسادًا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولدَ أحدهم. 14.ولا يَقْتُل مؤمنٌ مؤمنًا في كافر ولا ينصر كافرًا على مؤمن. 15.وأنّ ذمّة الله واحدة يجبر عليهم أدناهم، وأنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. 16.وأنّه مَن تبعنا من يهود فإنّ له النصرَ والأسوةَ غير مظلومين ولا مُتناصرين عليهم. 17.وأنّ سِلم المؤمنين واحدةٌ، لا يُسالِم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم. 18.وأنّ كل غازية غَزَت معنا يعقب بعضها بعضًا. 19.وأن المؤمنين يُبِيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. 20.وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدًى وأقومه، 20/ب.وأنّه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن. 21.وأنّه مَن اعتَبط مؤمنًا قتلا عن بيّنة فإنه قَوَدٌ به إلا أن يرضى ولي المقتول [بالعقل]، وأن المؤمنين عليه كافّةً ولا يحلُّ لهم إلا قيام عليه. 22.وأنّه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن يَنصر مُحدِثًا (مجرما) ولا يُؤوِيه، وأن من نصره أو آواه فإنّ عليه لعنةَ الله وغضبَه يوم القيامة، ولا يُؤخذ منه صرف ولا عدل. 23.وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنّ مردَّه إلى الله [عز و جل]وإلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ]. 24.وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا مُحاربين. 25.وأنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، لليهود دِينهم وللمسلمين دِينهم، مَواليهم وأنفسهم إلا من ظلَم وأثم، فإنه لا يُوتِغ (أي لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيتِه. 26.وأنّ ليهود بني النّجّار مثل ما ليهود بني عوف. 27.وأنّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. 28.وأنّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. 29.وأنّ ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوف. 30.وأنّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. 31.وأنّ ليهود بني ثَعلَبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا مَن ظلم وأَثم فإنّه لا يُوتِغ إلا نفسَه وأهلَ بيته. 32.وأنّ جَفْنَةَ بطنٌ مِن ثعلبة كأنفسهم. 33.وأنّ لبني الشُّطَيبَة مثل ما ليهود بني عوف، وأنّ البرَّ دون الإثم. 34.وأنّ موالي ثعلبة كأنفسهم. 35.وأن بطانة يهود كأنفسهم. 36.وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد [ صلى الله عليه وسلم ]. 36/ب.وأنّه لا يَنحَجِز على ثأرِ جُرحٍ، وأنه مَن فَتَك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظَلم، وأنّ الله على أبَرِّ هذا. 37.وأنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأنّ بينهم النصر على مَن حاربَ أهل هذه الصحيفة، وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم. 37/ب.وأنه لم يأثم امرؤٌ بحليفه، وأنّ النصر للمظلوم. 38.وأنّ اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. 39.وأنّ يَثرب حرامٌ جوفُها لأهل هذه الصحيفة. 40.وأنّ الجار كالنفس غير مضارٍّ ولا آثِم. 41.وأنّه لا تُجار حرمةٌ إلا بإذن أهلها. 42.وأنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة مِن حَدث أو اشتجار يُخاف فسادُه، فإنّ مَرَدَّه إلى الله [عز و جل] وإلى محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبَرِّه. 43.وأنّه لا تُجار قريش ولا مَن نَصَرها. 44.وأنّ بينهم النصر على مَن دهم يثرب. 45.وإذا دُعوا إلى صلح يُصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دَعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين إلا مَن حاربَ في الدِّين. 45/ب.على كل أناس حِصَّتهم مِن جانبهم الذي قِبَلهم. 46.وأنّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البِرّ المحض مِن أهل هذه الصحيفة، وأنّ البِرّ دون الإثم لا يَكسِب كاسب إلا على نفسه، وأنّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبَرِّه. 47.وأنه لا يحول هذا الكتابُ دون ظالمٍ أو آثم، وأنه مَن خرجَ آمِنٌ ومن قعد آمِنٌ بالمدينة، إلا مَن ظلم وأثم، وأنّ الله جارٌ لمن بَرَّ واتّقى ومحمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ].»
السيرة النبوية لابن هشام، 2/150-151.
لا نبالغ إن قلنا إن «الحوار» أصبح سمة عهدنا الحالي. الحوار يعني قيام المجموعات المختلفة للجماعات الإنسانية التي تعيش معاً بحوار فيما بينها محاولين بذلك فهْم أحدهم للآخر والاعتراف به واستخراج الأسس المشتركة الموجودة بينهم على قدر الإمكان والتي تشكّل أرضية قانونية تساعدهم على العيش معاً بأمن وسلام.
ومن زاوية النظرة القرآنية فإن البشر خُلقوا بخصائص غنية ومختلفة، وإن من الخطأ اتخاذ هذا الاختلاف سبباً للصراع وللخصام؛ فمثل هذا الخطأ سيؤدِّي إلى الإخلال بالأمن وبالسلام، ويُلحق ضرراً كبيراً بالإنسانية، وينسف جميع جسور التفاهم. بينما الصواب هو عدّ كل هذه الاختلافات كزهور فوّاحة تملك كل زهرة منها جمالاً وعطراً خاصّاً بها تشكل حديقة إنسانية مباركة.
هناك طريقان لتعايش الناس معاً؛ أحدهما استعمال القوة والبطش، والثاني قيام الأناس الأحرار بالوصول إلى التفاهم فيما بينهم وإرساء هذا التفاهم بعقد قانوني معيَّن، وتعيين أسلوب التصرف والتعامل وحقوق كل إنسان ومسؤولياته. ولم توضع الدساتير والقوانين والعهود والمواثيق الإنسانية إلاّ لتأمين هذا الأمر. ولا شك أنه لولا وجود متونِ ونصوص المعاهدات والمواثيق لَما تحقق أي سلام اجتماعي ولا أي وحدة سياسية. ولكن المهم هنا أن هذه المعاهدات يجب أن تسجل بإرادة إنسانية حُرة وبرِضَا الأطراف ودون أي إكراه.
والمواضيع المطروحة حاليّاً أمام الديمقراطية مهما تباينت وِجْهات نظرنا مدحًا أو ذمًّا، وكذلك المقاييس التي يتخذها ويتّبعها أيُّ نظام سياسي هي لتأمين قيام كل مجموعة من المجموعات الاجتماعية المختلفة باستعمال إرادتها بكل حرية لتؤثّر على مراكز اتخاذ القرارات ومعرفة مدى استعمال المؤسسات المدنيّة لحقوقها في التعبير.
ويمكن القول بأن الإسلام يملك في هذا الموضوع تراثاً غنيّاً. فقد قام التاريخ الإسلامي والتجربة التاريخية للإسلام بشكل عام على قبول الخصوصيات المتنوعة لكافة المجموعات المختلفة دينية كانت أم قومية أم ثقافية أم لغوية. وقد وَجدت أديان ومذاهب وثقافات عديدة وأقوام عديدون إمكانيةَ العيش بأمان في ظل الإسلام.
وإن وثيقة المدينة مثال واضح وجيد طبّق في الواقع العملي فعلاً وأنموذج للعيش معاً بسلام. فلنطالع وثيقة المدينة ونتفحصها من هذه الزاوية.
القيمة التاريخية للوثيقة
كان المستشرق الألماني «ولهاوسن- Wellhausen» أول من عرّف هذه الوثيقة وقدمها للأوساط العلمية في العصر الحديث. وندين إلى الأستاذ محمد حمِيد الله رحمه الله وإلى بحوثه الواسعة في اشتهار هذه الوثيقة في العالم الإسلامي، وفي معرفتنا معرفة شاملة بالظروف التاريخية وبالبيئة الاجتماعية عند صدور هذه الوثيقة.
كان أول من سجل هذه الوثيقة هو محمد بن إسحاق (توفي 151 هـ)؛ ويقال بأن ابن سيد الناس وابن كثير قاما بتسجيل هذه الوثيقة ودَرْجها في كتبهما؛ كما قام البيهقي بإدراج الفقرات «1-23» الخاصة بتنظيم العلاقة بين المهاجرين والأنصار وبيان سنَدها. وذكر ابن هشام (توفي 213 هـ) هذه الوثيقة في كتابه «السيرة النبوية» بصورة أكثر تفصيلاً من ابن إسحاق. وترِد الوثيقة أيضاً بكاملها في كتاب «الأموال» لأبي عبَيد، وفي كتاب «الأموال» لحميد بن زنجويه (توفي 247 هـ).
وتشير كتب الحديث إلى أن الفقرات «1-23» التي تتناول العلاقات فيما بين المسلمين كتبت في بيت أنس بن مالك رضي الله عنه ؛ أما الفقرات «24-47» التي تنظم علاقات المسلمين مع المشركين واليهود فكتبت في بيت بنت الحارث. علماً بأننا -إن أهملنا أسماء القبائل والأماكن- نجد أن جميع الأسس القانونية لهذه الوثيقة وجميع الأحكام والمبادئ الواردة فيها موجودة في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
والأرجح أن هذه الوثيقة كتبت ووقع عليها في العام الأول للهجرة (622 م)، وقد قام «ولهاوسن» بتجزئة المتن الأصلي الذي أورده ابن هشام وأبو عبَيد إلى 47 فقرة، ثم قام حمِيد الله بتجزئة بعض هذه الفقرات فيما بينها فبلغ هذا الرقم إلى 52 فقرة.
البيئة الاجتماعية
إن الدعوة الإسلامية التي بدأ بها نبيّنا صلى الله عليه وسلم في مكة عام 610م لم تجلب إلى الإسلام إلا نفَراً معدودين. وعندما زاد عددهم بمضي الوقت جُوبهوا بعراقيل ومضايقات عديدة. وبعد مضيّ 13 سنة في مكة بقي عدد المؤمنين محدوداً، فلم يبق أمام الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلا الخروج من مكة إلى مكان آخر يجدون فيه الحرية والأمن، لذا اضطروا إلى الهجرة إلى الحبشة مرتَين في بادئ الأمر ثم إلى المدينة.
كانت مكة من أهم مراكز السياسة والتجارة في شبه الجزيرة العربية. ومما كان يزيد من أهميتها وجود الكعبة فيها -وكانت من أهم المراكز الدينية منذ السابق- ووجود أكبر القبائل العربية وأعرقها فيها. ونظراً لخصائصها هذه، فقد نُظمت مكة تنظيماً جيداً من الناحية السياسية والإدارية. وبجانب مركزيتها السياسية والبيروقراطية كانت تبدو -بسبب وجود القبائل الحرة فيها- في مظهر حكم كونْفدرالي، إلا أن المدينة -مدينة الهجرة- كانت تفتقر إلى مثل هذه الوحدة السياسية. لأنه بينما كانت قبيلتا قريش في مكة وثقيف في الطائف تُحققان الوحدة السياسية، إلا أن هذه الوحدة السياسية لم تكن متحقّقة في المدينة لوجود نزاع مستمر وحروب بين القبائل الموجودة فيها كقبيلتَي الأوس والخزرج العربيتَين والقبائل اليهودية (قبائل بني قَينقاع وبني النضير وبني قرَيظة). ويقول «ولهاوسن» إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نجَح في إرساء وحدة سياسية عجيبة في ذلك الجو المضطرب في المدينة بين هذه القبائل التي كانت في حاجة ماسّة إلى وحدة سياسية. وكانت هذه الوحدة السياسية أمراً جديداً وغريباً لم يألَفه العرب. وتيقن الباحثون بأن الفروق بين مكة والمدينة من ناحية البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ساعدت على تجذر المسلمين في المدينة وعلى قيام وحدة سياسية جديدة هناك.
كان غياب وجود سلطة سياسية مركزية في المدينة ينعكس حتى على الحياة الاجتماعية وعلى ساحة الدفاع أيضاً. فعدم وجود دفاع مشترك في المدينة أدى إلى قيام كل قبيلة ببناء سور دفاعي قويّ لها. ويذكر ابن النجّار وجود 13 سوراً للعرَب. كانت هذه الأسوار بمثابة «غِيتُو» يفصل كل قبيلة أو مجموعة من القبائل عن القبائل الأخرى. وكانت مصاريف الدفاع المشترك -وهو أمر خاص باليهود- تُدفع من قبل صندوق شعبي. أما القبائل العربية فقد أسّست ما يشبه صندوق الضمان الاجتماعي لدفع مبالغ الديات. ومع أن اليهود كانوا يملكون التوراة إلا أنه لم يكن هناك قانون مكتوب ينظّم العلاقات بين الأفراد وبين القبائل. وكانت الخلافات والمنازعات تُحَلّ في الغالب حسَب الأعراف السائدة ومن قِبل حكام. ولكن نظراً لعدم وجود قوانين واضحة فإن الأطراف القوية لم تكن تأبه لقرارات هؤلاء الحكام مما كان يعني دوام الظلم وضياع الحقوق.
كانت نسبة من يقرأون ويكتبون في المدينة نسبة ضئيلة، وكان اليهود يتكلمون العربية، ويكتبون العربية بالحروف العِبرية. وكانوا يؤدون عباداتهم ويعلّمون أبناءهم في «بيت المِدْراس» أو «المدارس». بينما كان العرب محرومين حتى من هذه الفرصة الضئيلة. ونظراً لأنهم كانوا لا يملكون كتاباً (أي كانوا أمّيين) كانوا يشعرون بالضآلة والنقص أمام اليهود.
لم تكن المجموعتان العرقيتان (أي العرب واليهود) مجموعتين متجانستين. والشيء الذي يجلب الانتباه أنه بينما كانت هناك معارك بين العرب واليهود، كانت هناك معارك بين القبائل العربية ومعارك بين القبائل اليهودية كذلك. فحسَب المعلومات التي أوردها ابن هشام فإن القسم الأكبر من قبيلة بني قَينُقاع اليهودية كانوا حلفاء لقبيلة الخَزرَج العربية. وكان القسم الأكبر من قبيلتي بني النضِير وبني قرَيظة حلفاء لقبيلة بني أوس العربية. ولكن المعارك الكبيرة كانت تجري بين قبيلتَي الأوس والخزرج. ويذكر المؤرخون أن حرب «بُعاث» الطاحنة بين الأوس والخزرج استمرت 120 عاماً.
والحقيقة أن هذه الحروب الضروس بين هاتين القبيلتين -اللّتَين كانتا تنحدران من قبيلة واحدة هي قبيلة بني قَيل- دفعت المدينة وما حواليها إلى الفوضى والاضطراب، وأخلّت بالأمن وأثارت نوعاً من اليأس والقنوط. وقبل أيام من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فكّر أهل المدينة في تنصيب عبد الله بن أُبيّ ملكاً عليهم لكي يتم تأسيس سلطة مركزية تضع حدّاً لهذه الصدامات والنـزاعات.
ونظراً لكون أهل المدينة على اتصال وثيق مع بِيزنطة ومع فارس فقد رأَوا أن النظام الملكي يمكن أن يؤسس النظام ويُنهي الفوضى. ولكن سجايا عبد الله بن أبيّ كانت ضعيفة، فقد كان شخصاً ضيق الأفق حريصاً على مصالحه، وكانت الخلافات العميقة التي تعصف بالمدينة تتجاوز طاقته كثيراً. وقد سهّل غيابُ السلطة السياسية المركزية في المدينة قدومَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها. فحسَب رأي السيدة عائشة رضي الله عنها فإن الجو المضطرب للمدينة ساعد على تقوية مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة.
الأطراف الموقعة على هذه الوثيقة
كان من أوائل ما عمله الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وصوله إلى المدينة هو إيواء المهاجرين الجدد الذين قدموا إلى المدينة، واتخاذ التدابير اللازمة لتأمين الحاجات المعيشية الضرورية لهم ولعوائلهم. لذا قام بتأسيس علاقات التعاون الاجتماعية والاقتصادية بين مسلمي المدينة «الأنصار» ومسلمي مكة «المهاجرين»، وأطلق اسم «المؤاخاة» على هذه العلاقة. وقد اشترك في عملية المؤاخاة هذه 45 أنصارياً و 45 مهاجراً، أي بلغ المجموع 90 شخصاً. وتشير المصادر التاريخية إلى أنه لم يبق هناك مهاجر لم يشترك في هذه المؤاخاة.
بعد هـذه التطورات التي حدثت بعد الهجرة ظهرت ثلاثة قطاعات اجتماعية في المدينة: المسـلمون، اليهود، والعرب المشركون. كان المسلمون يتألفون من المهاجرين المكّيّين ومن أهل المدينة من الأنصار من قبيلتَي الأوس والخزرج. كانت مثل هذه البنية الاجتماعية شيئاً غريباً في شبه الجزيرة العربية وغير معروف في حياة العرب وتقاليدهم. لأن التقاليد القبلية العربية كانت قائمة على رابطة الدم والقرابة، بينما اجتمع في المدينة أناس من أديان ومن عناصر وقوميات وأماكن جغرافية مختلفة مشكّلين قطاعاً اجتماعياً مختلفاً. والدليل على هذا أن المادة الثانية من وثيقة المدينة كانت تشير إلى جماعة سياسية قائمة على أساس الدين، وهي أمة واحدة دون سائر الناس.
ولا حاجة بنا إلى ذكر أن المدينة لم تكن مؤلَّفة من المسلمين فقط، فقد كان فيها اليهود الذين استقروا فيها منذ زمن بعيد، وكان هنالك العرب الذين لم يدخلوا في الإسلام. لذا كان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم مهمة عاجلة هي التأليف بين هذه القطاعات الاجتماعية وتأمين عَيشها معاً دون مشاكل.
حل المعضلة
بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم - لحل المعضلة - بفحص البنية الاجتماعية والدينية والسكانية للمدينة أولاً. فقام بإحصاء سكّاني في المدينة، وهو أمر كان غريباً تماماً بالنسبة للتقاليد والأعراف التي كانت سائدة آنذاك. وقد تبين نتيجة الإحصاء أن عدد سكّان المدينة يبلغ 10 آلاف شخص، منهم 1500 مسلم و 4000 يهودي و 4500 من المشركين العرب.
ثم خطا رسولنا صلى الله عليه وسلم خطوة ثانية فقام بترسيم الحدود للمدينة المنورة ووضع علامات في زوايا الجهات الأربع لها، وهكذا عَيَّنَ حدود «دولة المدينة». وحسب المادة 39 من الوثيقة فإن المنطقة المحصورة في ضمن هذه الحدود والواقعة في داخل وادي يثرب (الجوف) أصبحت منطقة الحرم.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحاول من جهةٍ إسكان المهاجرين وتأمين تكيّفهم مع بيئتهم الجديدة، ويحاول من جهة أخرى طَمأَنة اليهود والمشركين العرب، وكان يقول لهم بأن غايته هي تأمين جوّ آمن لمنتسبي الدين الجديد. والحقيقة أن المسلمين قد تبنَّوا مضمون الوحي الذي نزل أثناء وجودهم في مكة، والذي كان يقول ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون: 6). ولكن قريشًا رفضت هذا المشروع المتضمن للسماح بتعدد الأديان، وحاولت منع الرسول صلى الله عليه وسلم عن القيام بتبليغ دينه، واختارت فتنة الراغبين في الدخول إلى الإسلام عن دينهم بالضغوط وفنون التعذيب.
ومع أنه لا يصح سَوق الفرَضيات، إلاّ أنه يمكن القول بأن مشركي مكة لو سمحوا للمسلمين بحرية الرأي والعقيدة وبممارسة دينهم وبالحرية في التبليع، لما تمت الهجرة ولظلّ المسلمون يعيشون مع غيرهم في مكة. إذ لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم طوال العهد المكي سوى طلبَين: أحدهما حرية القيام بتبليغ الدين، والآخر حرية ممارسة مبادئ الدين في جو آمن دون أي مضايقات. وهاتان الحريتان المطلوبتان هما من مطالب البشر في الماضي والحاضر والمستقبل إلى يوم القيامة.
فلم تكن هناك حاجة في المدينة لكي يغير الرسول صلى الله عليه وسلم إستراتيجيته التي كان يتّبعها في مكة؛ فإن حياته في المدينة كانت شرحاً وإيضاحاً واستمرارًا من الناحية الاجتماعية والحقوقية والمؤسساتية للوحي الذي نزل عليه في مكة. أي تنفيذ مشروع اجتماعي جماعي مستند على أساس من الحرية حيث تستطيع الجماعات التي تملك حكماً ذاتياً أن تعيش معاً في مجتمع عام، أو أن تضع نظاما سياسيا ييسر للجميع العيش معاً بسلام. لا شك أن التبليغ (أي الدعوة إلى الدين الجديد) كان سيستمر ولكن بشرط عدم إكراه أي شخص على اعتناق دين معين، وكذلك رفع جميع العوائق أمام من يرغب في تبديل دينه.
وعقب الوصول إلى المدينة عقد مجلس كبير ضم الأنصار ونقباء المهاجرين حيث تم فيه في الأرجح مداولة الأحكام والأسس القانونية لعملية التآخي التي ذكرناها سابقاً. وقد تم تعيين المواد 1-23 من هذه الوثيقة وتدوينها في هذا الاجتماع، أي تم تسجيل شكل العلاقات الاجتماعية والقانونية للجماعة الإسلامية وتثبيتها في مواد قانونية مكتوبة.
بعد ذلك قام الرسول صلى الله عليه وسلم بمشاورات عديدة، ليس مع رؤساء قبائل المسلمين فحسب بل أيضاً مع زعماء وممثلي الجماعات الأخرى من غير المسلمين. كان الاجتماع الأول مع المسلمين في بيت أنس بن مالك رضي الله عنه ثم مع زعماء المسلمين واليهود في بيت بنت الحارث حيث تم التفاهم على المبادئ الأساسية لـ«دولة المدينة» الجديدة. وفي رأي العالم المحقق محمد حمِيد الله فإن هذا «الدستور الجديد للدولة» كان من زاوية عقدًا اجتماعيًا بين الجماعات المنضوية تحت مظلة هذه الدولة الجديدة، وهذا الدستور هو وثيقة المدينة الموجودة بين أيدينا حالياً.
لا شك أن كِلا الاجتماعَين جريا في جو من الحوار الحُر، فقد طرَح ممثلو الجماعات المختلفة طلباتهم وأَولوياتهم، واستمعوا إلى آراء الآخرين وتحادثوا فيما بينهم وحددوا النقاط الأساسية والإطار المشترك ثم سُجِّلَ مَتن هذا الإطار.
أحكام الوثيقة
يرى الأستاذ محمد حميد الله بأنه إلى جانب كون هذه الوثيقة دستور الدولة الإسلامية الأولى، فإنها كانت في الوقت نفسه أول دستور مكتوب في العالم آنذاك. ويتّضح من المعلومات الواصلة إلينا عن طريق أنس رضي الله عنه وعن طريق آخرين بأن هذه الوثيقة ظهرت كإجماع واتفاق جميع الأطراف عليها في نهاية هذه المحادثات، وهذا هو الصحيح؛ لأنه لم يكن من الممكن قيام الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اضطر إلى الهجرة من مكة ليلاً وبشكل سرّي بإجبار الآخرين على كتابة وثيقةٍ تلبّي رغباته فقط، علماً بأن أتباعه لم يكونوا يتجاوزون 15% من سكان المدينة؛ أي إن إرغام الأطراف الأخرى -التي كانت أنذاك أكثر عدداً وعُدّة من أتباعه- على قبول الوثيقة كان مستحيلاً.
ومن العوامل الأخرى التي أدّت إلى قبول هذه الوثيقة الجماعية في ختام المباحثات التي أجراها النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطراف الأخرى والتي استندت إلى أخذ إجماع كل الأطراف، هو إيقاف الفوضى وغياب الأمن الذي تردى فيه أهل المدينة بعد 120 عاماً من القتال والبغضاء، ولم تستطع المدينة أن تصل بنفسها إلى حلٍّ واستقرار وسلام اجتماعي وسياسي مع القوى الاجتماعية فيها. فكأنها كانت تنتظر منقذاً لها. وبينما كانت هذه المدينة تتقَهقَر باستمرار إلى الوراء اقتصاديّاً بسبب الحروب المستمرة، كانت هناك في الأفق نذر حرب جديدة. وفي هذا الوقت الحرِج ظهَر شخص أَجنبي عنها أشار إلى طرُق إمكانية العيش معاً بأمن مع كافة المجموعات الموجودة الأخرى، ودعا الجميع إلى الارتباط بالأسس القانونية التي تعطي لكل ذي حقّ حقَّه.
والنقطة المهمة الثانية هي قبول كل طرفٍ وجودَ الأطراف الأخرى كظاهرة وعدم القيام بأي ضغط عليها، وقبولها كما هي، وكما تقوم بتعريف نفسها، واحترام حق الحياة لها، واحترام أفكارها، في ظل القانون وتحت حمايته.
ويجب ألاّ ننسى أن اليهود -الذين كانوا طرفاً في هذه الوثيقة- لم يكونوا يُعدون «ذمّيّين» ولم يكونوا إذن يعطون الجزية لأي حكم أو سلطة أو دولة خارجهم. لأن آية الجزية نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، وهذا يبيّن بأن الأطراف المشاركة في الوثيقة لم تكن تُعطي الجزية حتى تلك السنة، أي لم تكن تُعَدُّ من الذميين.
بجانب هذا، فقد اشترك العرب المشركون في هذه الوثيقة باعتبارهم -حسب العادات والأعراف العربية- من «الـمَوَالِي». فحسب هذه الأعراف إن دخلت قبيلة أو عشيرة أو جماعة في معاهدة فإن حلفاءها السابقين (أي مَوالِيها) يكونون طرفاً غير مباشر في تلك المعاهدة. ونحن نعلم من سورة «براءة» أن المشركين العرب بقوا مدة طويلة يعيشون في المدينة. وكانت سورة «براءة» إنذاراً بقطع جميع العلاقات السياسية وإنذاراً بالحرب. ومع ذلك فإن المشركين العرب المعاهَدين كانوا مُستَثنَين من الحرب لا يمسهم أحد بسوء ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة: 4).
المبادئ الأساسية في الوثيقة
المبدأ الأول: يجب على كل مشروع مثالي يريد تحقيق الحق والعدل واحترام القانون والحقوق ويهدف إلى تحقيق السلام والاستقرار بين الناس أن يظهر بين الجماعات المختلفة (من الناحية الدينية أو السياسية أو الفلسفية...الخ) على أساس من معاهدة وعقد. ويجب حضور جميع الأطراف الاجتماعية أو مَن يمثّلونها في أثناء تهيئة ووضع هذه المعاهدة أو العقد، وأن يتم هذا في جوّ من الحرية والحوار والمباحثة والمذاكرة بين هذه الأطراف.
ونظراً لكون هذه الأطراف جماعات غير متجانسة كان من الضروري أن تكون كل مادة من مواد الوثيقة تحمل طابع المشاركة وطابع الالتقاء بين هذه الأطراف، وأن تُسجَّل نتيجة التصويت عليها. وكل مادة متَّفَق عليها تشكل حكماً من أحكام الوثيقة، وكل مادة تكون موضع خلاف بين الأطراف تُترك لهذه الأطراف. فالفقرات المُجمَع عليها تدخل في ساحة المعاهدة، والفقرات المختلف عليها تدخل في مجال الحرية الذاتية (أو الحكم الذاتي). وهذا دليل على الاختلاف الثريّ الموجود ضمن الوحدة، أي هو «الجماعية» الصحيحة.
المبدأ الثاني: وهو اختيار مبدأ «المشاركة» بدلاً من مبدأ «التحكّم»، لأنه في ظل الحكم السياسي الدكتاتوري لا يتم قبول التنوع والاختلاف، بينما نرى أن وثيقة المدينة تذكر أسماء القبائل المسلمة وأسماء القبائل اليهودية قبيلة تلو قبيلة، كما تشير إلى المشركين في مادة أخرى (المادة: 20/ب). وكلمة «المولى» الواردة في الوثيقة تشير إلى القبائل والعشائر والمجموعات التي دخلت في عهد أو اتفاق مع إحدى القبائل دون وجود أي قرابةِ دم معها. وهذا يعني أن كل طرف من الأطراف الاجتماعية التي وقّعت على هذه الوثيقة كان يمثل أيضاً القبائل والمجموعات المرتبطة بها، وكان يعطي نفس الحقوق والمسؤوليات لها. إلا أن المادة رقم «20/ب» كانت تشير إلى أحكام خاصة بالنسبة للمشركين العرب، وكانت هذه الأحكام تؤيَّد بالمادة رقم «43» كذلك. وكانت الغاية من هذه الأحكام منع مشركي المدينة من أي تعاون مع مشركي مكة سياسياً كان أم عسكرياً. هذا علماً بأن مشركي المدينة لم يكونوا يحملون أيّ رغبة في التعاون مع مشركي مكة، لأنهم كانوا يخافون من أن يجلب هذا التعاون مشاكل لهم. ولكنهم كانوا يرغبون في التمتع داخل دولة المدينة (الموضَّحة في المادة: رقم 39) بكل الحقوق والحريات مع الآخرين. وقد قامت الوثيقة بتأمين وضمان هذه الحقوق والحريات لهم أيضاً وعلى أساس من القانون. ونحن نعلم بأن مشركي المدينة -وهم طرف في وثيقة المدينة- استمروا في العيش في المدينة حتى بعد معركتَي بدر وأُحد اللتَين جرَتا مع مشركي مكة، ولم يحدث أيّ مشاكل بينهم وبين المسلمين.
ونستنتج مما تقدم أن كل مجموعة دينية وعرقية كانت تملك حرية ثقافية وحقوقية؛ أي إن موقف كل طـرف من ناحية الدين وتشريع القوانين المتعلقة بالمجتمع والمحاكمة والثقافة والتجارة والفن والعبادة وتنظيم الحياة اليومية...الخ، مواقف هذه المجموعات والطوائف المختلفة ستبقى كما هي وكما ترغب وتستطيع التعبير عن نفسها في هذه الساحات بحرّية من خلال المقاييس القانونية والثقافية.والمادة التي كانت تَضمن هذه الحقوق هي المادة رقم «25».
أما المادة رقم «42» فتذكر بأنه في حالة ظهور أي خلاف يخشى من عواقبه يتم الرجوع فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . والظاهر من الآيات القرآنية ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومن مصادر السيرة النبوية فإن هذه المادة قد اقتُرحتْ من قبل اليهود والمشركين. لأن الوضع الفوضوي في المدينة كان قد هز الثقة والاطمئنان بين القبائل. لذا فقد اتفق جميع الأطراف على رفع المشاكل التي لا يستطيعون حلَّها إلى مرجع أعلى يقوم بحلّها. وكان هذا المرجع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان مرجعاً محايداً أتى من خارج المدينة. وكان القرآن الكريم يذكر له أن بِوُسعه النظر في دعاوى القوم إن أراد ذلك ويعطيه هذه الصلاحية ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ (المائدة: 42). وعلى إثر هذه الآية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخيّر مَن يراجعه منهم وكان يسألهم ما إذا كانوا يريدون أن يحكم بينهم بالقرآن أم بالتوراة؛ أي إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في موضع «الحَكَم» وليس في موضع «الحاكِم». ويجب أن نضيف هنا أن النظر في قضايا غير المسلمين أو إعطاء حق حل مشاكلهم ودعاويهم -لا سيما الدعاوى المدَنية منها- في محاكمهم وضمن قوانينهم أصبح منذ ذلك اليوم حقّاً من حقوق الذميين، واستمر هذا الأمر حتى نهاية الدولة العثمانية.
أما المادة «23» فكانت تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحاكم المطلق في الأمور الدينية للمسلمين، ولكنه يستشير الآخرين في المسائل الإدارية. وكان هذا أمراً طبيعيّاً، لأن المسلمين كانوا قد بايعوه ورضوا بالارتباط به والانقياد له منذ البداية. وهو أمر مناسب لأسس الدين الإسلامي الذي لا يفرق بين العبادة والحقوق. وهذه المادة -كمَبدَأ أساسيٍّ- تؤكّد أن الدين الإسلامي يُلزم المسلمين فقط.
والذين يتّهمون الإسلام ويَصِمونه بالدكتاتورية لا يعرفون هذه الحقيقة تمام المعرفة. لأن الناس إن كانوا أحراراً في اختيار دينهم ولهم مثل هذا الحق فإن هذا يؤدي -ويعني أيضاً- أن الأشكال المختلفة للحياة الاجتماعية والقوانين المرتبطة بها يجب أن تكون متلائمة مع الدين ومع الأفكار الدينية. وفي هذا الوضع فإن الدين الإسلامي والقوانين الإسلامية تلزم المسلمين فقط، ولا تَشمل الآخرين، ولا يُطلب من غير المسلمين التصرف حسب هذه القوانين. وهذا شرط -وكذلك ضمان- لحرية الدين والوجدان وحرية التعبير والسماح للآخرين بالعيش حسب أديانهم. وقد حقق الرسول صلى الله عليه وسلم هذين الشرطَين قبل 1400 سنة وتم تسجيلهما في إطار القوانين والحقوق، بينما لم يتحقق هذا حتى الآن في عصرنا الحالي.
كانت هذه الوثيقة عالمية وموضوعية وفَوق الطوائف الاجتماعية، أي لم يكن بوسع المسلمين واليهود والمشركين الخروج خارج نطاقها العام.
كان هذا وحده انقلاباً وثورة كبيرة. ففي هذه البنية القانونية الجديدة التي لا تتم فيها حماية المجرم من أي طائفة أو جماعة تتجلى العدالة وتسود الطمأنينة وتظهر وتُصبح مسؤولية اجتماعية مشتركة بين جميع الأطراف (المادة: 12 و 13 و 21). ويعني هذا أن الجرائم والعقوبات أصبحت فردية، وانمحى مفهوم الجرائم والعقوبات الجماعية. ولكن قيام قبيلة الجاني بدفع دية المقتول لم يكن يُخلّ في ظروف وجو ذلك العهد بهذا الأساس القانوني. كما كانت الفقرة «12/ب» تسمح للأشخاص بالقيام -خارج هذه الوثيقة- بعقد اتفاقات أخرى مع موالي الأشخاص الآخرين.
إن الناحية التي تهمنا في هذه الوثيقة أنها وثيقة مكتوبة في عام 622م، نتيجةَ مباحثات ومشاورات بين قطاعات دينية واجتماعية مختلفة، وأنها وضعت للتطبيق العملي.
هذا ويمكنا أن نستخرج كليات أساسية من أحكام هذه الوثيقة إن قمنا بعملية تجريد وتعميم لها، ومن ثم يمكن لهذه الكليات الأساسية أن تكون مصدر إلهام في حل كثير من المشاكل اليوم. وهناك العديد من الأحاديث والآيات والعديد من التجارب الذاتية والمحلية في تاريخ المسلمين، وكذلك العديد من أحكام الشريعة الإسلامية التي تؤيد المشروع الكبير الذي استهدفته هذه الوثيقة. وإن التجارب التي حفَل بها التاريخ الإسلامي في هذا الموضوع كانت انعكاساً لروح هذه الوثيقة بخطوطها العامة وشرحاً وتطبيقاً لها. إننا ونحن نعيش في هذا العصر مشاكل عدّة مثل النـزاع العربي الإسرائيلي والنـزاعات الإقليمية ودعوى صراع الحضارات والعمليات الإرهابية نرى أننا في حاجة ماسّة إلى مشاريع تتخذ من التعاقد والحوار والمباحثات أساساً لها، أي نحتاج إلى مشاريع تؤمن بالتعددية وتسعى لها.
المصادر:
(1) صحيح البخاري.
(2) السيرة النبوية لابن هشام.
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد.
(4) الوثائق السياسية لمحمد حميد الله.

محطات في تاريخ التسامح بين الأديان والشعوب

محطات في تاريخ التسامح بين الأديان والشعوب
ظلت الأندلس طيلة الحكم الاسلامي الذي استغرق ردحا طويلا من الزمن ، تشكل أنموذجا للتسامح والتعايش بين الشعوب والإثنيات من عرب وبربر ومستعربين ويهود ومولدين وصقالبة ، وغيرهم من الطوائف التي وفدت من مختلف الأصقاع ، لتنصهر ضمن وحدة اجتماعية تميزت بخصائص حضارية مشتركة وانسجام اجتماعي ملحوظ ، رغم ما كان يظهر أحيانا من نعرات التعصب التي لم تكن سوى استثناءات ونتوءات في تاريخ الأندلس . ولتأكيد هذه الفرضية ، تسعى هذه الورقة لإعطاء صور متعددة عن التسامح الذي ساد بين مختلف الإثنيات العرقية والديانات المتنوعة بالأندلس ، مدعمة بالحجج والقرائن ، وذلك عبر ثلاث محطات من التاريخ الأندلسي وهي : 1 - تعايش اجتماعي مشترك . 2 - حرية المعتقد . 3 - ثقافة متسامحة تقوم على الاختلاف والتنوع . وقبل تناول هذه المحطات الثلاث ، تجدر الإشارة إلى أن دراسة التسامح بين الشعوب والأديان ، تستدعي التحفظ مما جاء في بعض المرجعيات الفقهية التي تلون خطابها بنبرة من التعصب والتشدد تجاه بعض الطوائف الدينية ، وتستلزم مقابل ذلك الاحتكام الى الواقع التاريخي الذي يثبت أن المجتمع الأندلسي تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعها الفقهاء ، وتعامل المسلمون مع كل الطوائف الأخرى على أساس مبدإ الانفتاح على الآخر ، بعيدا عن كل أشكال الاستعلاء والتميز ، وهو ما سنتطرق إليه في موضعه . 1- المحطة الأولى : تعايش اجتماعي مشترك . منذ اللحظة الأولى التي فتح فيها المسلمون الأندلس ، بدأت عقارب التسامح تتسارع ، وهو ما تعكسه إحدى الروايات حول رؤية موسى بن نصير النبي (ص) وهو ينصحه ((بالرفق بالمشركين )) ، ورغم ما يحمله ظاهر نص هذه الرواية من شحنة أسطورية ، فإن الدلالة الرمزية التي يختزنها ، تكمن في عزم القيادة الاسلامية على فتح حوار حضاري مع أهل البلد الذي فتحوه . وترجم هذا الاتجاه بعقد معاهدات سلمية تحتفظ لهؤلاء بحرية المعتقد وحماية الممتلكات ؛ ورغم ضياع معظم الوثائق التي تؤكد هذا التعامل الحضاري ، فثمة وثيقة هامة لم يطوها الزمن ، وردت في شكل معاهدة صلح كتبها عبد العزيز بن موسى بن نصير إلى تدمير حاكم إقليم مرسية ، وفيها يظهر بجلاء حفاظ سكان هذا الإقليم على استقلالهم السياسي ، وحرية معتقداتهم ، وحماية أرواحهم وممتلكاتهم . ومع أن المسلمين أصبحوا أسيادا على الأندلس ، إلا أن معاملتهم للإسبان كانت تتم على قدم المساواة . وفي هذا السياق أورد المرحوم حسين مؤنس نموذجا يعكس ذلك ، ويتجلى في أن ميمون العابد أحد أقطاب الصلحاء المسلمين ممن دخلوا الأندلس ، ذهب إلى " أرطباس " زعيم أهل الذمة بالأندلس ، وطلب منه ضيعة ليزرعها على أساس اقتسام الثمر بينه وبين صاحبها . وكان بالإمكان - وهو في وضعية الغالب - أن يستبد بممتلكات هذا الأخير ، لكنه فضل التعامل بهذا الأسلوب الذي يعكس الرغبة في الحوار مع الآخر دون عقدة تضخم الأنا أو نزعة الاستعلاء . ومن مظاهر هذا التعايش الاجتماعي القائم على قدم المساواة ، امتزاج العرب بالمستعربين في كل الأماكن . ولعلّ تفحص خريطة إقامة المستعربين تدل على أنهم كانوا يحتلون مكانة اجتماعية متميزة ، حيث أقاموا في الحواضر الأندلسية الرئيسية مثل غرناطة وإشبيلية وبلنسية ومالقة وغيرها من المدن الهامة . وقد دأبوا على سكن أحياء خاصة بهم مراعاة لتقاليدهم وخصوصياتهم ، غير أن ذلك لم يحل دون مخالطتهم مختلف شرائح المسلمين . ورغم تحذيرات الفقهاء من التعامل مع النصارى ، فإنهم لم يجدوا الآذان الصاغية ، خاصة أن بعضا من الفقهاء أنفسهم كانوا على صلة وثيقة بهم ، مصداق ذلك ما رواه الطرطوشي من أن فقيها يدعى ابن الحصار كان له (( جار نصراني يقضي حوائجه وينفعه )) . أما في ميدان حساس كالتجارة فالتفاعل بين الطرفين كان على أشده . ولا غرو فقد تعامل معهم الأندلسيون بيعا وشراء . وتعد الأمثال الشعبية أرقى درجات المصداقية في التعبير عمّا كان يسود من معاملات تجارية بين المسلمين والنصارى واليهود داخل المجتمع الأندلسي . ومن مظاهر التسامح الذي نهجته الدول الاسلامية التي حكمت الأندلس تجاه المستعربين ، أنها تركت لهم نظامهم الاجتماعي والقضائي كما كان في العصر القوطي دون تدخل أو إكراه ، بل حاولت دائما أن تجد الحلول عبر الاجتهادات التي كانت تقدم للفقهاء . ومن صور التسامح الاجتماعي الأخرى احترام الدول الاسلامية تقاليد وأعراف اليهود والمستعربين بالأندلس ، حيث خصصت لهم مقابر خاصة تمشيا مع عوائدهم وتقاليدهم في دفن موتاهم . ولا تعوزنا الأدلة في إبراز مدى احترام المسلمين لحقوقهم الاجتماعية ، والضرب على أيدي كل من حاول المس بها ، فقد ورد عند ابن عذاري أن مجموعة من مستعربي غرناطة ذهبت إلى بلاط الأمير المرابطي علي بن يوسف لتقديم شكوى حول العسف والجور الذي تعرضت له من قبل عامل المدينة المسمى عمر بن يناله . فلما ثبت للأمير حجتهم أمر بسجنه (( وأنصفهم من ظلاماتهم )) . كما لم يجد القاضي ابن رشد أي حرج في تحويل حكم كان لصالح مسلم إلى نصراني ثبت أن حقه قد هضم . ويستشف من روايات أخرى أن النصارى لم يمنعوا من تناول الخمور . كما سمح لهم باستغلال المرافق الاجتماعية الضرورية ، إذ تنص إحدى فتاوى ابن رشد على عدم منعهم من استقاء المياه مع المسلمين من الصهاريج ، بل سمح لهم بالخروج مع المسلمين في صلاة الاستسقاء ، وكل هذه القرائن تعكس مدى التعايش المشترك بين شعوب الديانات الثلاث بالأندلس . أما الوجه الثاني لهذا التعايش الاجتماعي المبكر فيتمثل في ظاهرة الزواج بين العرب الفاتحين والنساء الإسبانيات ، مما أدى الى تكوين عائلات وبيوتات بفضل هذا الامتزاج ، وهي البيوتات المولدية . لقد أصبحت ظاهرة التزاوج والمصاهرة بين الجنسين العربي والاسباني ظاهرة متميزة جعلت من عملية فتح الأندلس مدخلا لتعايش اجتماعي وحضاري مشترك أكثر منه غزوا عسكريا . وتحفل المصادر التاريخية بذكر أخبار متفرقة عن نماذج من الزواج العربي - الاسباني ، من ذلك ما رواه صاحب كتاب " افتتاح الأندلس " عن زواج عيسى بن مزاحم بسارة القوطية بنت ألمند بن غيطشة ، ثم زواجها الثاني بعد وفاة زوجها الأول بعمير بن سعيد اللخمي . وبالمثل فإن عبد العزيز بن موسى بن نصير تزوج "بأيلونا" المعروفة بأم عاصم . وقد حظيت هذه المرأة الاسبانية " الحديدية " عنده بمكانة متميزة إلى درجة أنها حملته على التنصر ، ناهيك عن زواج زياد بن نابغة التميمي بامرأة اسبانية كان لها دور في الأحداث الأولى التي أعقبت فتح الأندلس . ومع مرور الزمن سيزداد إيقاع هذا التزاوج العربي - الاسباني سرعة وشمولا حتى صار الموثقون والعدول يخصصون فصولا من كتبهم لكتابة صيغ نموذجية لعقود زواج المسلمين بالكتابيات . وقد أفرز هذا الزواج المختلط جنسا يحمل الدم العربي-الاسباني وهو المعروف بجنس المولدين . وكان من نتائج تجدر أواصر الحضارة المشتركة على المستوى الاجتماعي أن تأسست عادات وتقاليد مشتركة قوية لدرجة جعلت بعض الباحثين يتحدثون عن " أسبنة " للعناصر الإثنية العربية . وانعكس هذا الذوبان في النسيج الاجتماعي في مشاركة مسلمي الأندلس إخوانهم المسيحيين في معظم احتفالاتهم الدينية ، وهي مشاركة روحية أفرزتها قرون عديدة من التعايش . فمن خلال تتبع النصوص النادرة حول هذا الموضوع ، نجد إشارات هامة الى مساهمة المسلمين في الاحتفالات بمناسبة عيد المسيح و عيد سان خوان . و نذكر من الأعياد التي شارك فيها مسلمو الأندلس إخوانهم المسيحيين أيضا عيد ينير الذي كان يحتفل به في النصف الأول من هذا الشهر ، وهو احتفال أفاضت المصادر الأندلسية في وصف مظاهره . فحسبما يستشف من أزجال ابن قزمان ، فإن المسلمين انطلاقا من مبدإ التعايش المشترك ، لم يجدوا غضاضة في التحلي بأجمل الأزياء في هذا العيد المسيحي ، واستضافة الأصدقاء والأحباب لقضاء أجواء الليل في الاحتفال والسمر ، وتغص الموائد بأصناف الحلويات وغيرها من شتى أصناف المأكولات ، بل إن بائعي الفواكه كانوا يطرقون أبواب منازل المسلمين في الأندلس لبيع ما تستلزمه هذه المناسبة من احتفال ، وتعبيرا عن مشاركتهم فيها . كما ساهم مسلمو الأندلس في الاحتفال بعيد العنصرة الذي كان يتم الاحتفال به بعد مرور خمسين يوما على عيد الفصح ، و هي مناسبة تمثل لدى المسيحيين ذكرى نزول الروح القدس على حواريي المسيح الاثنى عشر . ونظرا لتعلق الأندلسيين بهذا العيد ، فقد انعكس في أمثالهم التي صوّرت ما يجري من عادات الأفراح وأشكال الاحتفالات في مثل هذه المناسبة . ومن الأعياد المسيحية المحتفل بها في الوسط الاسلامي الأندلسي أيضا ليلة العجوز، وهي ليلة آخر السنة الميلادية . وتتصل بها مناسبة أخرى عرفت بخمس أبريل ، وهي مناسبة دينية تعرف عند المسيحيين بالجمعة العظيمة التي ترمز إلى تاريخ صلب المسيح ، وكانت الصلاة تقام في الكنائس مساء الخميس . ورغم المحاذير الدينية التي كان تطلقها أفواه بعض الفقهاء الأندلسيين الذين اعتبروا مشاركة مسلمي الأندلس في الأعياد المسيحية بدعة ، فإن المجتمع الأندلسي غالبا ما تجاوز هذه الممنوعات الفقهية ، مما يعكس روح التسامح والتشارك الحضاري . وفي هذا السياق نجد نساء إشبيلية المسلمات يضربن صفحا عن " أوامر " المحتسب ابن عبدون بعدم مصاحبة النساء النصرانيات إلى الكنيسة . كما أن دعوته لإحداث قطيعة بين المسلمين واليهود لم تكن سوى صيحة في واد ، لأن اجتماع الطوائف الأندلسية أصبح أمرا مألوفا في الأسواق والمرافق الاجتماعية التي نهى عنها محتسب اشبيلية ، بل إن بعض الشبّان الأندلسيين ضربوا بتوجيهات الفقهاء عرض الحائط فولعوا بالفتيات النصرانيات، وعشقوهن إلى درجة أنهم أصبحوا يترددون على الكنائس لرؤية معشوقاتهم المسيحيات . من ناحية أخرى ، شكل الزي الأندلسي وجها آخر للتعايش المشترك بين طوائف وشعوب المجتمع الأندلسي ، ولا غرو فقد ظهرت ملامح التأثير الافرنجي في الزي الأندلسي بوضوح ، خاصة في الملابس الحريرية المطرزة والقلانس . نستشف ذلك مما ذكره ابن الخطيب عن ابن مردنيش أمير شرق الأندلس إبان العصر المرابطي الأخير حيث (( مال إلى اتخاذ زي الروم )) . وفي نفس المعنى أكد المقري أن أمراء وأعيان الأندلس غالبا ما تزينوا باللباس الافرنجي . وأثناء حديثه عن أنواع الملابس التي انتشرت خلال العصر المرابطي ، يشير إلى اشتراك المسلمين والمستعربين في الأندلس في صناعة زي من جلد القلنية . ومن الدلالات على الأزياء المشتركة بين المسلمين والمستعربين أن مصطلح "فشطان " الذي شاع استعماله في اللغة العامية الأندلسية كان يعني في لغة ذلك العصر ((ثياب الروم )) ، مما يدل على التداخل بين حضارتين كانتا تعيشان على ارض واحدة . وعلى غرار المسيحيين ، استعرب اليهود منذ هذه الفترة الباكرة من تاريخ الأندلس ، فأخذوا لغة العرب وملابسهم ، واندمجوا اندماجا عميقا في الحضارة الاسلامية . ورغم استئساد الفقهاء في فرض بعض الأزياء على اليهود ، ومنعهم من ارتداء بعضها ، فإن الواقع التاريخي يثبت أن هؤلاء قلدوا أزياء الأعيان المسلمين ، متجاوزين بذلك كل المحاذير الفقهية ؛ ففي نازلة وردت على أحد أصحاب القاضي أبي بكر بن العربي أن رجلا يهوديا كان يرتدي عمامة وخاتما ويركب السروج على فاره الدواب على عادة المسلمين في الأندلس ، ويجلس في حانوته دون غيار ولا زنار يتميز به عن عموم المسلمين، مما يؤكد صحة التعايش المشترك القائم على مبدإ التسامح . ورغم أن الوسط الشعبي الأندلسي كان لأسباب تنافسية أحيانا يكن البغض لبعض اليهود ، فإن هؤلاء كانوا يختلطون بالمسلمين ويتعاملون معهم بيعا وشراء ، وأصبح اليهود - باعتراف المؤرخ اليهودي Sloush - ينعمون في عصر الطوائف والمرابطين ، خاصة في عهد علي بن يوسف بامتيازات كبيرة لم يحصلوا عليها منذ عهود طويلة
يتضح من حصاد النصوص السابقة أن الأندلس عرفت نسقا اجتماعيا تعايشت فيه أنماط حضارية جمعها مبدأ التسامح الذي سار على نهجه مسلمو الأندلس ، فماذا عن الجانب العقدي ؟ 2- المحطة الثانية : حرية المعتقد منذ فتح المسلمين للأندلس ، تعايشت الديانات السماوية الثلاث الاسلام والمسيحية واليهودية جنبا إلى جنب ، رغم ما كان يطرأ على صفو العلاقات بين معتنقي هذه الديانات من غيوم عابرة . فالديانة اليهودية خرجت من طور الاضطهاد الذي لزمها خلال العصر القوطي ، إلى طور التسامح . وقد زاد من وتيرة هذا التسامح المساعدة التي قدمها اليهود أثناء فتحهم الأندلس ، حين دلّوا المسلمين على نقاط ضعف جهاز الجيش القوطي والعورات التي كانت تعتري التحصينات ، مما حدا بالفاتحين إلى التعامل معهم بروح ملؤها التسامح ، بل وضعوا ثقتهم فيهم فأوكلوا لهم مسؤولية حراسة ما فتحوه من قلاع وحصون ، وتركوهم يعيشون أحرارا في أهم الحواضر الأندلسية كغرناطة واليسانة ، ولم يتعرضوا لبيعهم بالهدم ، بل وفروا لهم كل الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية . حقا أن ثمة شواهد تاريخية حول بعض المضايقات الدينية التي تعرض لها اليهود من طرف الفقهاء والقضاة ، من ذلك ما طالب به ابن سهل في إحدى فتاويه بهدم شنائع يهودية محدثة . لكن مثل هذا السلوك كان له ما يبرره من الناحية الشرعية إذ لم يجوّز الفقهاء بناء كنائس أو شنائع داخل المدن الاسلامية ، وخاصة في الأراضي العنوية ، لذلك ليس الصواب تعميم هذا الحدث للقول باضطهاد المسلمين ليهود الأندلس . على عكس هذه التخريجات ذات الرؤية القاصرة ، يستشف من رسائل الجنيزة ما تمتع به اليهود من حرية دينية تمثلت في السماح لهم بالحج إلى بيت المقدس ، وتأليف الكتب الدينية . ولا غرو فقد صنف يهوذا هاليفي Judah Halevi المعروف في المصادر العربية بأبي الحسن كتابا حول اليهودية وعلاقتها بالأديان الأخرى ، وأصبح اليهود في عصر الطوائف والمرابطين يتمتعون بامتيازات لم يحصلوا عليها منذ عهود طويلة . وبلغت حرية النشاط الديني ذروتها مع إسحاق الفاسي اليهودي الذي خلف موسى بن عزرا في منصب حبر غرناطة في بداية القرن السادس الهجري ، ولعب دورا أساسيا في التكوين الديني ليهود الأندلس . كما ظهرت مجموعة من الأحبار في مدن أندلسية أخرى كغرناطة وقرطبة وأليسانة. وتعددت معابد اليهود في الأندلس إلى درجة أنها أثارت انتباه العامة ، فذكروها في أمثالهم . ومن مظاهر حرية المعتقد التي حظي بها اليهود في عصر المرابطين انتشار المراكز الدينية اليهودية في المغرب كما تؤكد ذلك إحدى القصائد التي نظمها أبراهام بن عزرا , خاصة في عهد الأمير المرابطي علي بن يوسف ، لذلك لا عجب أن يعتبره البعض (( أحد حماة اليهود )) . ولا شك أن روح التسامح التي ميزت المرابطين من الناحية الدينية تخالف المعاملة القاسية التي لقيها مسلمو بلنسية على يد العناصر اليهودية إثر استيلاء النصارى عليها . وكل هذه القرائن تنفي ادعاء من فسر هجرة المفكرين اليهود نحو الممالك المسيحية بأنها نتيجة التعصب الديني الذي أبداه المرابطون . فلو كانوا يعيشون في مثل هذا الاضطهاد الديني المزعوم ، لما فتحت أمامهم مجالات الكتابة و الأبحاث في ديانتهم . ومن الدلائل القاطعة على ما تمتع به اليهود من حرية العقيدة والفكر ، ظهور العديد من المفكرين والعلماء الذين طوروا الثقافة اليهودية ، ومارسوا أنشطتهم دون معارضة كابن ميمون وغيره. أما بالنسبة لحرية المعتقد بالنسبة لمسيحيي الأندلس ، فإن السلطة الاسلامية كفلت لهم حريتهم الدينية منذ بداية الفتح الاسلامي للأندلس ، وكذلك استمر الأمر خلال عصر الولاة والإمارة والخلافة . بل إن التسامح الديني تجاههم بلغ ذروته في عصر ملوك الطوائف . وبخصوص العصر المرابطي ذهب بعض الباحثين الأجانب إلى اتهام المرابطين بالتعصب والتشدد ضد المسيحيين انطلاقا من إقدام هؤلاء على هدم بعض الكنائس ، غير أن هذا القول مردود ولا تؤكده الوقائع ، وحسبنا أن هناك شواهد تثبت انتشار الكنائس في طول بلاد الأندلس وعرضها ، وما حدث من هدم بعض الكنائس مثل كنيسة البيرة تفسر بظرفيتها العصيبة ، حيث جاء هذا الهدم متزامنا مع نفس السنة التي استولى فيها الصليبيون على بيت المقدس . ولا أدل عن هذا التسامح من أن ثوب القداس الذي كان يرتديه القديس خوان ذي أروتيغا كان يحمل اسم الأمير علي بن يوسف ، وهو الثوب الذي ما يزال محفوظا بإحدى كنائس برغس . وبالمثل فإن أحد الأساقفة الذي تم إبعاده من الأندلس نتيجة تحالفه مع ألفونسو السابع ، ظل في مدينة فاس مدة 11 سنة ، كتب خلالها نسخا من الإنجيل بكل حرية . والراجح أن التسامح الديني الذي أبداه مسلمو الأندلس ، والسلوكات الحضارية التي تعاملوا بها مع الأهالي المسيحيين ، ما جعل هؤلاء يعتنقون الاسلام . فالمصادر تمدنا بين الفينة والأخرى بأخبار بعض المسيحيين الذين أسلموا ، ومن بينهم جد ابراهيم بن سفرج المدعو بابن همشك . كما وردت في نوازل ابن سهل مسألة عن (( غلام من النصارى يريد الاسلام )) . ويمثل اعتناق مسيحيي اشبيلية الإسلام بكيفية جماعية في عصر المرابطين أهم نموذج لاعتناق المسيحيين الاسلام ، وهو ما يبرز من خلال الرسالة التي أوردها الونشريسي على لسان علي بن يوسف يستفتي فيها رأي الفقيه ابن ورد بقوله : (( ...وكذلك ورد علينا كتاب ابننا أبي بكر أعزه الله بتقواه مضمنا أن قوما من النصارى المعاهدين أسلموا في اشبيلية حرسها الله )) . أما في ما يتعلق باليهود ، فيمكن أن نذكر من الشخصيات اليهودية التي اعتنقت الاسلام أبو الفضل بن حسداي فضلا عن عدد هام ممن أسلموا ، حتى أن ظاهرة دخول اليهود للإسلام أصبحت شائعة ، وأصبح العامة الأندلسيون يطلقون مصطلح " أسلمي " على كل من أسلم من اليهود . المحطة الثالثة : ثقافة الاختلاف والتنوع رغم هيمنة العرب على الأندلس ، فقد أشاعوا ثقافة متسامحة أساسها الاختلاف والتنوع ، حتى أن الفكر اليهودي لم يعرف نهضة مثلما عرفها في الأندلس ، ولا غرو فقد برزت أسماء العديد من المفكرين اليهود في شتى مناحي المعرفة ، خاصة خلال العصرين الطائفي والمرابطي . ومن هذا القبيل إسحاق الفاسي اليهودي ، وأبي الحسن يهودا وغيرهما . ولايخامرنا شك في أن إمكانياتهم المادية مكنتهم من بلوغ درجة عالية من المعرفة المتمثلة في العلوم والآداب العربية التي ترجموها ، فطوروا بها الفكر اليهودي وساهموا في إثرائه . كما بذلوا جهودا محمودة لإثراء الدراسات الدينية اليهودية . و يأتي في طليعة المفكرين الدينيين إسحاق الفاسي (ت497هـ \1163م) الذي يعدّ حجة في الدراسات التلمودية . وقد استغرق شرحه للتلمود خمسين سنة كاملة . وبعد هجرته من قلعة بني حماد ، استقر في فاس ، ثم انتقل إلى مدينة أليسانة ، حيث أسس مدرسة أصبحت من أهم مراكز الدراسات التلمودية ، وخلف عدة تلاميذ . ويأتي بعده في الأهمية أبراهام بن عزرا (466-565هـ \ 1073-1163م) الذي شرح القوانين التلمودية في 24 مجلدا، إلى جانب نبوغه في مجال الشعر . وفي مجال الفلسفة بزغ العديد من اليهود ، ومنهم يهودا بن صمويل هاليفي المعروف في المصادر العربية بأبي الحسن . وقد ألف كتابا هاما عبّر فيه عن آرائه الفلسفية دون معارضة أي سلطة اسلامية ، فضلا عن أبي عمر يوسف بن الصديق الذي صنف مؤلفا في الفلسفة هدف من ورائه إلى تعريف معاصريه بالحقائق الكبرى للأخلاق . ويبدو أن الفلاسفة اليهود تأثروا بالفلسفة العربية ، وهذا في حد ذاته دليل على التفاعل بين مسلمي الأندلس واليهود . ويعد أبو جعفر يوسف بن أحمد بن حسداي أول المتأثرين بابن باجة الذي كان يراسله بكيفية مستمرة ، فضلا عن أسماء فلاسفة آخرين لا يسمح المجال بذكرهم أولا بأول . الشيء نفسه يقال عن اهتمام بعض اليهود بالعلوم العربية والنحو ، يذكر المقري من بينهم ابراهيم بن سهل الإسرائيلي ، بالإضافة إلى علماء آخرين عرفوا بعلو كعبهم في العلوم النحوية . وبالمثل ، شهد القرن السادس الهجري بروز عدة شعراء يهود نذكر منهم موسى بن عزرا الذي لم تسعفه الظروف للزواج بمحبوبته ، فظل يكتب الشعر مدفوعا بالألم الداخلي . وجمع قصائده في ديوان ذكر فيه الخمر والهوى ، ولذات العيش على طريقة شعراء العرب . أما يهوذا هاليفي فقد نظم أشعاره في قوالب و موضوعات عربية ، وألف رسالته المسماة الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل . ناهيك عن شعراء آخرين مرموقين قلدوا فن المقامات مثل سلمان بن زقبال ، وجود بن خياط وجود بن عباس ، كما برع بعضهم في فن الموشحات مثل قسمونة اليهودية . بيد أن جهود اليهود في المجال الثقافي تجلى أكثر في حركة الترجمة من العربية إلى العبرية واللاتينية حتى أن القرن السادس اعتبر انطلاقة حقيقية لحركة الترجمة ، وهذا ما يفسر حرص أمراء الإمارات النصرانية في شمال الأندلس على استدعاء بعض المترجمين اليهود للإقامة بين ظهرانيهم . ونسوق في هذا الصدد مثال موسى السيفاردي الذي كان مترجما الوقت و طبيبا لألفونسو المحارب ، ثم أبراهام بن عزرا (1089-1167م) ، فضلا عن مترجمين يهوديين آخرين سطع نجمهما في هذا الميدان . ولم تكن الترجمات المنجزة في الثغور الأندلسية تحمل أسماء المؤلفين الأصليين ، خلا بعض الترجمات الطبية التي استعملها قسطنطين الإفريقي وتلامذته . لذلك كان ابن عبدون على صواب حينما دعا إلى عدم بيع الكتب لليهود للحيلولة دون نسبتها إليهم . لكنه أخطأ الحساب حين اعتقد أن دعوته ستجد صدى ايجابيا ، فقد بيعت لهم الكتب ، مما أدى إلى ظهور مجموعة من المترجمين اليهود الذين نقلوا العلوم من العربية إلى العبرية . ومنذ القرن الخامس الهجري وضع يهودا شويح الفاسي قاموسا عبريا ومباحث قيمة عن الإنشاء والترقيم في اللغة العبرية . أما بخصوص انتشار ثقافة المستعربين ، فثمة من القرائن ما يكشف عن هذا الجانب ، خاصة في المجال اللغوي ، ذلك أن ازدواجية اللغتين العربية والافرنجية وتفاعلهما واندماجهما في التعبير العامي يؤكد ما نذهب إليه . لقد انتشرت اللغة العربية في أوساط الإسبان ، وظلت وسيلة للتعبير الكتابي حتى انتهاء الحكم الاسلامي في الأندلس كما يؤكد ذلك المستشرق الاسباني بالنثيا . ومما ينهض حجة على ذلك أن مقائيل بن عبد العزيز أحد الأساقفة الذي عاش في فاس خلال النصف الأول من القرن السادس الهجري 12م بعد قدومه من الأندلس ، كتب بخط يده نسخة من الإنجيل بالعربية ظلت محفوظة بخزانة الأسكوريال إلى حدود القرن 16م ، قبل أن تصبح بعد ذلك عرضة للضياع . وفي نفس المنحى الذي يؤكد انتشار اللغة العربية في أوساط الإسبان ، يذكر ابن عبد الملك المراكشي في ترجمة الفقيه أحمد بن عبد الصمد بن ابي عبدة أنه (( كان له مملوك من أبناء الروم قد علّمه الكتابة ، فكان يكتب عنه كل ما يؤلف ويصدر عنه من نظم أو نثر )) . وفي الاتجاه المقابل ، لا نعدم من النصوص ما يؤكد معرفة الأندلسيين للغة الإفرنجية، فعند حديثه عن الخدع التي كان يقوم بها تجار الجواري ، ذكر السقطي أن رجلا ((اشترى جارية أوهم أنها إفرنجية لكي تشترى بمال كبير ، وأوهمت هي كذلك المشتري بأنها افرنجية باللغة الإفرنجية )) . كما أن بعض الأندلسيين حافظوا على أسمائهم النصرانية ، ومنهم الحسن بن فيّره (( وفيّره اسم جده وهو اسم عجمي بلغة أعاجم الأندلس ومعناه الحديد )) . وينهض الزجل الذي بلغ ذروته في الأندلس دليلا على هذا التأثير الاجتماعي واللغوي بين الجانبين . ولا غرو فقد جاء حافلا بصور الحياة اليومية لمسلمي الأندلس إلى جانب عادات النصارى وتقاليدهم بلغة امتزجت فيها العامية الأندلسية باللاتينية . كما أن أزجال ابن قزمان تقوم دليلا على التأثيرات اللغوية والاجتماعية في مجال الأزياء والطعام والاحتفالات . من جهة أخرى فإن العامية الأندلسية المعروفة باسم العجمية أو الرومانسية أو اللطينية شاعت في الأندلس ، وهي لغة تختلط فيها الألفاظ العربية واللاتينية . والراجح أنها كانت شائعة لدرجة كبيرة حتى أن ابن حزم يبدي استغرابه من كون إحدى العائلات الأندلسية المشهورة وهي " دار بلي " لا يحسن أهلها التحدث باللاتينية . ويحاول المستشرق الاسباني "بالنثيا " اعتمادا على الأبحاث التي قام بها "ريبيرا " أن يفسر أسباب ذيوع اللغة الرومانسية في الأندلس بين الأوساط الشعبية إلى قلة عدد العرب الأقحاح الذين دخلوا الأندلس . غير أنه يبدو أن انتشار هذه اللغة إنما جاء نتيجة التسامح الذي سار على هديه الفاتحون ، بحيث لم يفرضوا اللغة العربية كما تفعل بعض الشعوب الغالبة ، بل تركوا الحرية لكافة الطوائف والإثنيات لتتعامل بلغاتها المتداولة ، فكان من نتيجة هذا التسامح ظهور هذا الخليط من اللغات التي أنتجت اللغة الرومانسية . لكن " بالنثيا " يعود في موضع آخر ليعطي تبريرا معقولا يتماشى مع ما نذهب إليه من كون فكرة التسامح كانت وراء ظهور هذه اللغة ، فقد ذكر أن استعمال المصطلحات اللطينية في الزجل على سبيل المثال راجع لكون هذا الأخير يحتاج إلى بعض العبارات الجارية على ألسنة الناس في قرطبة، و عامة الناس من السوقة ، فضلا عن حاجته إلى بعض العبارات الاصطلاحية التي تنتشر بصفة خاصة بين أهل كل حرقة . وعلى كل حال ، فإن هذه اللغة لم تقتصر على كونها وسيلة للتداول في المنازل والشوارع ، بل غزت أجناسا أدبية أخرى في اللغة العربية الفصحى مثل الأزجال والموشحات . ولعلّ هذا الامتزاج اللغوي يعبّر عن تفاعل الحضارتين العربية -الاسلامية و الاسبانية -اللاتينية ، مما يجعلها - بحق - لغة الحوار الحضاري الأندلسي آنذاك . من حصيلة كل النصوص الموظفة في هذا البحث يتضح أن الأندلس كانت عطاء صادقا لقرون من التعايش والتسامح ، وأن ثلاث محطات من محطات عديدة في تاريخ الأندلس عكست صورا من مظاهر هذا التسامح الذي شهدته الأندلس ، وهي التعايش الاجتماعي المشترك ، وحرية المعتقد ، وسيادة ثقافة الاختلاف والتنوع ، مما جعل الأندلس أنموذجا لحوار الحضارات وتعايشها .

رسالة الحقوق في الإسلام (علي بن الحسين )

في ذكرى وفاة حفيد النبي الأكرم(ص) الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام والتي تصادف اليوم الخامس والعشرين من محرم الحرام يعدُّ هذا التاريخ يوما عالمياً لحقوق الإنسان لأنّ الإمام زين العابدين عليه السلام قد سبق منظمة الأمم المتحدة في إصدارها للإعلان العالمي الأول لحقوق الإنسان بحوالي 1300 عام .
وكان علماء دين وحقوقيون قد نادوا إلى ضرورة الاستفادة من هذا التراث الإسلامي ودعوا المسلمين وكذلك جامعات القانون واللجان الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان إلى إجراء دراسة موازنة لـ "رسالة الحقوق" للإمام زين العابدين في قبال التشريعات المعاصرة.
ويقول الشيخ حيدر حب الله أن (1) من واجب علماء المسلمين ‏ومفكريهم أن يتصدوا لبلورة هذه الحقوق، ويظهروا مكنون الاسلام ومذخورة منها.. ليس فقط من اجل ان يدفعوا عنه ‏تهمه لانتقاصه بعض حقوق الانسان وسلبه لبعض حرياته التي يروجها المرعوبون من انتشاره وتوهج نوره يوما بعد يوم،وإنما أيضا من اجل ان يتيحوا للبشرية كافة إن تفيد من شريعته السمحاء وتتدارك بها اوجه الخلل والنقص في ما تشرعه ‏لنفسها وفقا لادراكها المحدود وتصوراتها النسبية الضيقة".
ويقول سماحة السيد محمد باقر المهري من الكويت إن "رسالة الحقوق" هذه " لو عمل العالم بها لعم الاطمئنان وشاعت في المجتمع روح التسامح والمحبة والمؤاخاة والتعايش السلمي وتقبل مختلف آراء الناس لان فيها مقومات الحياة الفاضلة التي كانت تنشدها الانسانية منذ فجر التاريخ والى هذا اليوم".(1)
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر نقد المعرفة التربوية المعاصرة . علي أبو العينين مؤتمر نحو بناء نظرية تربوية معاصرة ط1،عمان ، الأردن .1411هـ ،ص166 .

فيما يصف سماحة الشيخ حسن العالي من البحرين رسالة الحقوق بأنها "تستهدف صناعة الإنسان على مختلف الأصعدة ، الإنسان الذات والإنسان المجتمع والإنسان الدولة". ويضيف أنه "إذا كانت نظريات حقوق الإنسان العالمية محاولة بشرية جديدة من أجل خلق مجتمع عادل ، فإن رسالة الحقوق التي ألفها الإمام السجاد (ع) شاهد قوي على أصالة الفكر الإسلامي وأسبقيته في رعاية حقوق الإنسان والدولة ، وعلى أن مدعيات أمريكا أو فرنسا أو أي دولة أخرى في أسبقية الغرب في هذا المجال ، كلام مجانب للحقيقة والتأريخ".(1)
وقد ترك الإمام زين العابدين (ع) إرثه الخالد "رسالة الحقوق" والذي جاء في عشرين صفحة تقريباً وضمَّن فيها حقاً من حقوق الإنسان وواجباته شملت تعامل الفرد مع خالقه ومع نفسه وجوارحه وأسرته وأقاربه وخصومه والكبير والصغير والمحتاج وحق محيطه ومجتمعه ودولته وأمته وحقوق أهل الأديان الأخرى .
الرؤية الإسلامية في قبال الرؤية الغربية لحقوق الإنسان ..
وفي دراسة موازنة أجراها سماحة الشيخ حسن العالي رأى أن النظرية الإسلامية لحقوق الإنسان كما توضحه رسالة الحقوق للإمام زين العابدين ورسالة الحقوق في نهج البلاغة للإمام علي (ع) أكثر تماسكاً وشمولية وأكثر استيعاباً من النظرية الغربية ، وأن هناك ثلاثة فروق رئيسة.(2)
ـــــــــــــــــــ
(1) نقد المعرفة التربوية المعاصرة . علي أبو العينين، المصدر السابق ، ص167.
(2) حقوق الإنسان في الإسلام ، زكريا البدري, دار الكلمة الطيب, القاهرة, 1997, ص7.





1- ترابط وتماسك الحقوق في الرؤية الإسلامية ..
وذهب إلى أن الفرق الأول هو أن منظومة الحقوق على وفق المنظور الغربي تغفل أي رابطة بين حق الإنسان و الحقوق الآخر. وهذا بدوره "أدى إلى أن تكون إنسانية في الحق وغير إنسانية في الأخلاق والمبدأ ، لأنها تقرر عنوان الحقوق مجردا عن علاقته بالنتائج المعنوية والروحية ". في حين أن رسالة الحقوق الإسلامية "تدور حول الله تعالى ، حيث يبدأ الإمام (ع) رسالة الحقوق بهذا النص الشريف (إن لله عليك حقوقا محيطة بك ) ، مشيراً إلى " أن الحقوق الإلهية لا تصوغ مجرد علاقة فردية بين الله والإنسان ، وإنما هي الأساس في الانطلاق لرعاية الحقوق الإنسانية عامة ، لإن الله جعل واسطة تتوسط بين الإنسان والقيام بالحق الإلهي ، وتلك الواسطة هي المحافظة على الحق الثابت لكل إنسان".(1)
و أوضح أن الرؤية الغربية تركز "على الإنسان وماله من حقوق من غير أن نعرف الارتباط بين حقوقه و الروحيات الإلهية ، بخلاف الرؤية الإسلامية التي تجمع الحقين وتجعل الحق الكبير متوقفا على الحق الصغير وملزما للإنسان على رعايتهما جميعا ، لأن تأدية الحق البشري يمثل المعبر الوحيد لتأدية الحق الإلهي
2- شمولية الحقوق في الرؤية الإسلامية
وأضاف أن هناك فرقاً آخر بين الرؤيتين الإسلامية والغربية. ويتمثل هذا الفرق في أن منظومة الحقوق في رسالة الحقوق تبدأ "من حق الله تعالى ، ومن الطبيعي أن يتفرع عليه حق أولياء الله ، ثم حقوق الجوارح في بدن الإنسان ، ثم حقوق الأفعال الخارجية ، ثم علاقة الإنسان بما حوله مما هو خارج عن ذاته ، فلا تبقى مِنْطَقة إلا ولها حق مشروع لا بد من تأديته والقيام بواجب شؤونه ".(2)
ـــــــــــــــــــ
(1) حقوق الإنسان في الإسلام ، زكريا البدري، المصدر السابق ، ص8.
(2) المصدر نفسه ، ص9.

وأشار إلى أن هذه الميزة "مفقودة في قانون حقوق الإنسان الغربي الذي يفترض الكثير من الفراغات" ، مضيفاً أن بعض الكتاب ذكروا "صورا من عدم الشمولية في الحقوق التي يقترحها النظام الغربي ،
3- المواثيق الدولية لحقوق الإنسان لا تتكلم ولا تعنى بعلاقة الدولة القوية بسواها من الدول الضعيفة ، ومنها أن مضمون حقوق الإنسان كما هو وارد في المواثيق الغربية والدولية يتكلم في حقوق المواطن لا حقوق الإنسان منفكا عن المواطنة ، فلا حرية للأجنبي ، وهذا تقييد في شمولية الحقوق".شمولية رسالة حقوق الإنسان . أن رسالة الحقوق يتجلى فيها الشمولية في لغتها لتنحل إلى مجموعة من الشموليات في جهات متعددة ، وهي شمولية التكليف ، شمولية المسؤولية وشمولية العدالة. وسنذكر كل فِقْرَة بشكل موجز :
1- شمولية التكليف
أمَّا عن شمولية التكليف فيقول الشيخ حسن العالي أن "التكليف شامل لكل ما يمكن أن يرتبط به الإنسان في الداخل والخارج من الأعضاء والناس" ، وأن ميزة هذا التكليف الإسلامي بالحقوق أنه ينبع من الأمر المولوي والجعل الإلهي على ذمة المكلف ، وهذا الأمر "يضفي على الحقوق المؤداة قيمة وقداسة تمنع المكلف من اختراقها والتفريط فيها لأنها أوامر الله والتفريط فيها تضييع لحق الله وخرقا لمولويته تعالى "، مشيراً إلى أن هذه الميزة مفقودة في المقررات الغربية لحقوق الإنسان.(1)

ــــــــــــــــــ
(1) الإسلام وحقوق الإنسان. ضرورات لا حقوق.محمد عمارة. القاهرة دار الشروق .1989ص12


2- شمولية المسؤولية
وأما بخصوص شمولية المسؤولية فهي كما يقول سماحة الشيخ العالي "تنبع من شمولية التكليف ومعناها أنه لا يوجد شيء أنت لا تملك المسؤولية اتجاهه ، لأنك مكلف اتجاه كل شيء " في حين المنظمات الحقوقية "تفترض مناطق كثيرة ليس للإنسان تكليف اتجاهها ، لان الحرية هي القاعدة ، فكل عمل يقوم به الآخر ما لا يزاحم الحرية المتعارفة فأنت غير مسؤول عنه حتى ولو كان انحرافا ، لأنه لا يزاحم وجودك وإن كان يزاحم روحيتك" .ويدعم هذا القول بمانسب للامام عليه السلام بهذا الخصوص (اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم ). (1)
وبخصوص شمولية العدالة فإن "العدالة ذات مستويات متعددة " و"قد يصل الإنسان إلى مستوى من المستويات ولكنه يفقد المستوى الآخر" إذ "قد يكون عدلا بالمعنى الاجتماعي والأخلاقي ولكنه ليس عادلا بالمعنى الفقهي والعرفاني".(2)
"إن رسالة الحقوق المأثورة عن الإمام علي بن الحسين (ع) ترتفع بالإنسان لتخطط له تخطيطا منطقيا لبلوغ كل مستويات العدالة ودرجاتها ، لأنها تبحث في حق النفس والجوارح والأفعال والصديق والعدو والمخاصم والمدعي وهكذا"، وأنها "الجديرة بصناعة الإنسان العادل بالمعنى الشمولي للعدالة في المستوى الفردي والأخلاقي والفقهي والعرفاني ، فإذا أدى حقوق النفس صار عادلا في الأخلاق ، وإذا أدى حقوق الآخرين كان عادلا اجتماعيا.. وهكذا إذا وصل إلى التمثيل للخلافة الإلهية فقد حاز العدالة العرفانية ". وهذا ماتفتقده الرؤية الغربية فمسعاها الحقوقي ينحصر في حدود الحالة الاجتماعية . واقول:
ــــــــــــــــــــ
(1) المرأة والعمل السياسي. رؤية إسلامية. هبة عزت. المعهد العالمي للفكر الإسلامي.1995 .ص 84
(2) ) الإسلام وحقوق الإنسان. ضرورات لا حقوق.محمد عمارة، المصدر السابق ، ص14.
إنه بناء ا على الرؤية الغربية لا يمكن أن نصل بالإنسان حتى للعدالة الاجتماعية ، وذلك لأن الذي لا يكون عادلا مع نفسه وأخلاقه الفردية لا يُرْجَى منه أن يكون عادلة وأمينا على حقوق الآخرين
ويوجد تغافل الأنظمة الاسلامية عن النظرة الاسلامية للحقوق ودعوة الأمم المتحدة للاستفادة من التراث الاسلامي الأنظمة الإسلامية ،على وفق مايفرضه الواقع ميالة ، لـ " نظريات الغرب في مجالات النهوض بالحضارة المتوازنة ، في الوقت الذي يعج التراث الديني قرآنا ورواية بمجموعة وافرة من القوانين التي لم تهمل أي جانب من جوانب الحياة والسلوك العام".(1)
وسبق للأمم المتحدة أن دعت في التقرير السنوي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان وتحسين البيئة والمعيشة والتعليم الدول العربية والذي صدر في عام 2002م إلى اتخاذ جد الامام زين العابدين الإمام علي بن أبي طالب (ع) مثالاً لتشجيع المعرفة وتأسيس الدولة على مبادئ العدالة. وقد احتوى التقرير المذكور الذي اشتمل على اكثر من مائة وستين صفحة على ست نقاط رئيسة أوصى بها الإمام أمير المؤمنين قبل ألف عام وبين مثلت العدالة والمعرفة وحقوق الإنسان. (2)
وقد جاء في هذا التقرير انتقاداً إلى الدول العربية ، ونص على "أن الدول العربية لا تزال بعيدة عن عالم الديمقراطية ومنح تمثيل السكان، وعدم مشاركة المرأة في شؤون الحياة، وبعيدة عن التطور وأساليب المعرفة" وحث هذه الدول على الاستفادة من وصايا الإمام علي (ع) في إدارة وتطوير الدول العربية.
صور من كلمات أمير المؤمنين كما جاءت في التقرير السنوي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان وتحسين البيئة والمعيشة والتعليم الدول العربية والذي صدر في عام 2002م
ـــــــــــــــــــ
(1) إشكالية حقوق الإنسان ضمن الوضع العربي الراهن,حميد مجدي, مرجع سابق ، ص5.
(2) الإسلام وحقوق الإنسان. ضرورات لا حقوق.محمد عمارة، المصدر السابق، ص15.